القضايا الاقتصاديةمقالات المركز

الصناعة في لحظات الفوضى.. الهند نموذجًا


  • 24 سبتمبر 2024

شارك الموضوع

 يشكل التصنيع أهمية بالغة للمكانة الإستراتيجية الشاملة، والنفوذ الذي تتمتع به أي دولة. ومع تزايد تسليح الشبكات الاقتصادية من خلال العقوبات، وحظر التصدير، وغير ذلك من التدابير، لم يعد بوسع البلدان أن تكتفي بتحسين البراعة العسكرية لجيشها النظامي فحسب؛ بل يتعين عليها أيضًا تحسين قدرتها الصناعية الشاملة، بما في ذلك البنية الأساسية، وإمدادات الطاقة، والموارد الطبيعية، والأنظمة المالية. وإدراك هذه الصلة بين قدرات التصنيع المحلية ومصالح الأمن القومي هو ما يدفع الغرب -على سبيل المثال- إلى تحقيق هدفه الإستراتيجي المتمثل في الانفصال عن الصين، فالغرب يدرك أن إنتاج السلع الأساسية لا يمكن أن يتم في أراضي منافس إستراتيجي.

إن قطاع التصنيع في أي دولة يشكل عاملًا أساسيًّا في تحديد قوتها العسكرية. وتحتاج كل القوى الناشئة إلى قطاع تصنيع قوي؛ لأن المصانع التي تنتج السلع الاستهلاكية يمكن تحويلها إلى إنتاج الأسلحة أيضًا. وعلى هذا، ونظرًا إلى احتمال المواجهة العسكرية بين الهند والصين وباكستان، والحاجة إلى تجنب الاعتماد المفرط على الشركاء الخارجيين في زمن الحرب، فإن نيودلهي لا تستطيع أن تتجاهل قطاع التصنيع لديها.

تُحقق الهند نسب نمو مُرتفعة خلال السنوات الأخيرة، لكن ما زال تحدي البطالة قائمًا؛ فالبلاد تحتاج إلى ما بين (12) مليونًا و(16) مليون وظيفة سنويًّا على مدى هذا العقد لاستيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل. وتستمر الزراعة في توظيف أكثر من (40%) من القوة العاملة، ولكن بسبب انخفاض الإنتاجية في هذا القطاع، فإن العمال الزراعيين يساهمون بنحو (16%) فقط من الناتج المحلي الإجمالي؛ ما يجعل هناك ضرورة مُلحة لتحويل العمالة الفائضة من الزراعة إلى قطاعي التصنيع والخدمات.

تواجه الهند إشكالات مُركبة فيما يتعلق بالنمط الاقتصادي الأمثل اتباعه؛ أولًا: لأن التصنيع المنخفض المهارة لا يمثل في العصر الحديث أفضل مسار للانتقال إلى دولة ذات دخل مرتفع. وقد استوعب قطاع الخدمات -تاريخيًّا- حصة أكبر من أولئك الذين ينتقلون بعيدًا عن الزراعة، في حين ظلت حصة الوظائف في التصنيع ثابتة؛ لذا، في ظل الظرف الراهن، لن تتمكن الشركات الهندية من توليد فرص العمل أو هوامش الربح الكافية؛ لأن العمالة الهندية تميل إلى أن تكون أكثر تكلفة نسبيًّا من العمالة في بنغلاديش، أو فيتنام. وبالإضافة إلى ذلك، حتى لو نجحت الهند في توسيع نطاق التصنيع، فإن قدرتها على أن تصبح قوة تصديرية أخرى -مثل الصين- ستكون محدودة بسبب الحماية المتزايدة ضد السلع التجارية في جميع أنحاء العالم؛ ونتيجة لذلك، فإن نموذج تصدير الخدمات العالية المهارة سيكون رهانًا أفضل للهند.

ثانيًا: إن نموذج النمو القائم على تصدير الخدمات قد لا يولد فرص عمل كافية للقوى العاملة الهندية الكبيرة وغير الماهرة نسبيًّا، التي تفتقر إلى التعليم العالي اللائق؛ ففي عام 2023، لم تشكل صادرات الخدمات سوى (25%) من التجارة العالمية. ومن ناحية أخرى، ومع تحسن القدرة الشرائية للدول النامية، فإن الطلب على السلع المصنعة سوف يزداد في السنوات المقبلة؛ مما يوفر للهند فرصة للاستفادة من هذه الأسواق الناشئة. وفي ظل هذه الظروف، لا تستطيع الهند تجنب الاستثمار في قطاع التصنيع. وبالإضافة إلى هذه العوامل، هناك عاملان آخران يجعلان من الضروري أن تعمل الهند على تنمية قطاع التصنيع لديها، وهما: البيئة الجيوسياسية المتوترة، والحاجة الملحة إلى إزالة الكربون. وهذه العوامل المتداخلة تجعل قطاع التصنيع المحلي القوي أمرًا بالغ الأهمية للهند في سعيها إلى التحول إلى اقتصاد متقدم، وقوة عظمى.

حددت الهند لنفسها هدفًا طموحًا يتمثل في تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2070، وسيتطلب هذا تصنيع آلات جديدة موفرة للكربون لتحل محل مخزون الآلات الموجودة. وعلى نحو عام، ستخلق هذه العملية أيضًا مزيدًا من الوظائف؛ لأن تدابير الطاقة النظيفة تميل إلى أن تكون أكثر كثافة في العمالة، وستحتاج الهند إلى خطة خضراء جديدة خاصة بها للاستفادة من هذا التحول في مجال الطاقة، لخلق فرص العمل، وتحفيز الابتكار، وإنشاء سوق تصدير للشركات الهندية في قطاع الطاقة النظيفة، ومن ذلك تصنيع المركبات الكهربائية، والخلايا الكهروضوئية، والبطاريات.

إن التحول إلى الطاقة النظيفة دون الاستثمار في القدرة الصناعية المحلية، من شأنه أن يجعل الهند عرضة للعوامل الخارجية. وفي مواجهة التوترات الجيوسياسية، كانت هناك زيادة في القيود المفروضة على تصدير المعادن الحيوية في السنوات الأخيرة؛ لذلك ينبغي أن يكون جهد الدول مثل الهند هو تعزيز استكشاف معادن الطاقة النظيفة وإنتاجها. وقد حددت الهند بالفعل (30) معدنًا، حاسمة لجهودها في إزالة الكربون، وهذه محاولة لكيلا تعتمد نيودلهي -على نحو مفرط- على دول أخرى لتوريد هذه المعادن كما تفعل فيما يتعلق بالنفط.

وفي لحظة تاريخية تعمل فيها القوى العظمى على إعادة تشكيل النظام العالمي، لا تسطيع أي دولة أن تتجنب تطوير قطاع التصنيع أو سلاسل التوريد الحيوية للمعادن المستخدمة في الطاقة النظيفة، وغيرها من الموارد الحيوية إستراتيجيًّا؛ فبناء قدرات صناعية يسهم في ضمان منح الاستقلالية، وخلق سُبل لخلق مسارات خاصة تضمن أمن الدول، ورفاه الشعوب.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع