نقل تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أمام البرلمان، في جلسة استثنائية في التاسع والعشرين من أغسطس (آب) المنصرم، موقف أنقرة إزاء تل أبيب، من مستوى الإدانة الخطابية والعقوبات الرمزية إلى حزمة سياسات سيادية بقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل، إضافة إلى غلق المواني التركية أمام السفن الإسرائيلية، مع منع دخول الطائرات الإسرائيلية إلى أجوائها؛ ما يمنح القرار وزنًا مؤسسيًّا داخليًّا لا مجرد تصريح وزاري عابر، فمن خلال استخدام أدوات الدولة وسيلةَ نفوذٍ عبر التحكم في المرافئ والأجواء تبعث تركيا إشارة مضاعفة؛ فهي ليست فقط طرفًا سياسيًّا محتجًا على أفعال إسرائيل، بل تسيطر على بوابة لوجستية يمكنها إعادة تشكيل كلفة الوصول إلى شرق المتوسط، ولكن في المقابل، رغم حدة التصريحات والإجراءات التركية على مدار العامين الماضيين، لم يُعلن قطع علاقات دبلوماسية على نحو كامل بين البلدين؛ ما يترك هامشًا تفاوضيًّا بين أنقرة وتل أبيب، ويفتح الباب أمام جملة من الرسائل التي يحملها القرار التركي الأخير على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، وحسابات الربح والخسارة، عقب القرار التركي، فضلًا عن التكهنات المتعددة بشأن مستقبل العلاقات التركية الإسرائيلية التركية على المدى المنظور.
جاء القرار التركي في توقيت دقيق يتقاطع فيه التصعيد في غزة مع تزايد المؤشرات الدافعة إلى تفاهمات أمنية بين دمشق وتل أبيب بوساطة أطراف دولية. هذا السياق يُضفي على الموقف التركي أبعادًا إستراتيجية تتجاوز التضامن مع فلسطين، ليشمل ملف سوريا بوصفها نقطة تماس مباشرة بين تركيا وإسرائيل، ما ينكشف أبرز دلالاته فيما يلي:
يأتي القرار التركي قطع العلاقات الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل ضمن سياق إقليمي معقد يتقاطع فيه البعد السياسي مع الاقتصادي والأمني، فقد تزامن القرار مع تصاعد الحرب في غزة، وزيادة الضغوط الشعبية على حكومة أنقرة لاتخاذ خطوات عملية ضد إسرائيل، إلى جانب رغبة تركيا في إعادة صياغة موقعها الإقليمي بوصفها قوة مركزية مؤثرة، لكن لهذا القرار انعكاسات تتجاوز حدود العلاقة الثنائية بين أنقرة وتل أبيب، تتضح فيما يلي:
في أواخر أغسطس (آب) 2025 أعلنت أنقرة تعليقًا واسعًا للعلاقات الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل، وقيودًا على موانيها وأجوائها، وفي الأسابيع نفسها برزت مؤشرات على محادثات وتفاهمات أمنية متقدمة بين دمشق وتل أبيب تحت وساطة إقليمية ودولية. هذه الوقائع تشكل ملامح السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: تضمين أنقرة في الاتفاق السوري الإسرائيلي
يرتكز هذا السيناريو المرجح على وساطة قوى إقليمية ودولية من خلال صيغة اتفاق تتضمن قناة تركية للمراقبة، أو ترتيبات لوجستية وأمنية مشتركة على غرار آلية إشراف على الجنوب، تمنح أنقرة دورًا رمزيًّا وعمليًّا، وهو ما قد تقبله دمشق إن ضمنت مصالح سيادية، أو تعويضات اقتصادية، في حين تقبل إسرائيل وجودًا تركيًّا مقننًا مقابل ضمانات بعدم استخدام الأراضي السورية ضدها. ويدعم حدوث هذا السيناريو أن الفاعلين الدوليين في الساحة السورية -وعلى رأسهم الولايات المتحدة وروسيا ودول الخليج- يفضلون حلًا سريعًا لتقليل التصعيد، في حين تريد إسرائيل ضمانات أمنية لوجودها في سوريا، وهو ما تستغله تركيا من خلال قرارها الأخير لرفع شروطها التفاوضية؛ ما قد يؤدي إلى إضعاف فاعلية الجزاءات التركية المباشرة على إسرائيل، في مقابل منح أنقرة مكاسب سياسية، ودورًا في التسوية السورية، وتخفيف احتمال تصعيد واسع بين إسرائيل وتركيا في المدى القصير، غير أن هذا السيناريو يفترض قدرة الوسطاء على تقديم ضمانات مقنعة لكل الأطراف.
السيناريو الثاني: انسداد الاتفاق السوري الإسرائيلي وتجميده
يفترض هذا السيناريو (المحتمل) تنفيذ أنقرة حزمة العقوبات لمرحلة طويلة، في الوقت الذي لا تقبل فيه دمشق أي اتفاق يُضعف موقفها الإقليمي، في حين تصر إسرائيل على عدم التنازل عن متطلباتها الأمنية الأساسية؛ ومن ثم ترفض دمشق توقيع اتفاق شامل، أو تؤجل الموافقة إلى أن تحصل على ضمانات إضافية. ويبرر حدوث هذا السيناريو تنامي العلاقات الدفاعية بين أنقرة ودمشق من خلال الاتفاق الأمني الأخير بين البلدين، الذي يتضمن تعميق التعاون التركي السوري على المستوى الأمني واللوجستي، واتفاقات تدريب وتسليح، وقواعد لوجستية مشتركة، وتنسيقًا أمنيًّا رفيع المستوى بين تركيا وسوريا، مع ترحيب إيراني وروسي محتمل بهذا المسار، أو توافق مع مآلاته، وهو ما يؤدي إلى إضعاف النفوذ الإسرائيلي من خلال تحالف تركي سوري موسع، وتموضع إستراتيجي طويل الأمد لصالح محور أنقرة- دمشق، وهو ما يعني تحولًا في موازين القوى الإقليمية، وإعادة حسابات القوى الغربية، ما يؤدي إلى تجميد العملية التفاوضية، أو إجراء اتفاق جزئي يكتفي بنقاط تقنية محدودة، مثل تبادل معلومات استخباراتية محدودة، وهو ما يحفز احتمال ارتفاع استمرار الغارات الإسرائيلية داخل سوريا ردًا على ما تراه تهديدًا أمنيًّا. هذا السيناريو يعظم نفوذ تركيا بوصفها قوة رئيسة في المعادلة السورية، ويزيد احتمالات استدامة الصراع بالوكالة في سوريا، غير أن هذا السيناريو يُعد تغييرًا إستراتيجيًّا طويل الأمد؛ ما يتطلب موارد سياسية وعسكرية، وثقة بين النظامين التركي والسوري.
السيناريو الثالث: تصعيد عسكري بين إسرائيل وتركيا في سوريا
في هذا السيناريو المستبعد، يمكن أن ترد إسرائيل على القرار التركي من خلال أدوات عسكرية؛ لحماية مصالحها من خلال الفصائل السورية الداعمة للوجود الإسرائيلي، التي تُستخدم بوصفها أدوات للضغط، كما قد ترفع إسرائيل وتيرة هجماتها على الجنوب السوري أو مواقع تعدّها جزءًا من بنى دعم تركية، وهو ما قد يحفز تركيا على توظيف فصائلها المسلحة في سوريا للرد على الهجمات الإسرائيلية، مع احتمال نشوء جبهات محلية، أو اشتباكات بحرية حدودية. ومع أن احتمالية اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة بين تركيا وإسرائيل في سوريا تظل منخفضة؛ نظرًا إلى حسابات الكلفة والمخاطر، فإن وجود دوافع قوية، مثل التنافس على النفوذ بين إسرائيل وتركيا، والملف الكردي، والاتفاق الأمني السوري الإسرائيلي المرتقب، يجعل هذا السيناريو قابلًا للتطور على شكل مواجهات بالوكالة، أو ضربات محدودة، أو عمليات استخباراتية متبادلة؛ ما سيزيد هشاشة الوضع السوري، ويدفع الإقليم إلى مرحلة جديدة من الاستقطاب الحاد.
يعكس القرار التركي تحولًا نوعيًّا من أدوات الضغط الرمزية إلى هندسة قسرية للمسارات التجارية في شرق المتوسط، بما يخدم رسائل سياسية داخلية وخارجية، ويولد تكاليف لوجستية واقتصادية على إسرائيل وشبكاتها التجارية، غير أن فاعلية الأثر ستتوقف على عدة محددات، لعل أبرزها يرتبط بصرامة التنفيذ واستدامته، وقدرة تل أبيب على الالتفاف عبر أطراف ثالثة، فضلًا عن مسار الأزمة في غزة، وما إذا كان سيُنتج ترتيبات إنسانية وسياسية تسمح بمرونة تدريجية؛ ما يجعل القرار التركي يبدو خطوة ضغط حقيقية تُعيد توزيع توازن القوى في شرق المتوسط، وتضع تركيا في موقع المُتحكم اللوجستي -ولو مؤقتًا- في إحدى أبرز بؤر التوتر الإقليمي. ومع إبقاء العلاقات الدبلوماسية قائمة، فإن أنقرة تراهن على الجمع بين التصعيد الرمزي والبراغماتية الواقعية، وهو ما يعني أن القرار موجه بالأساس لإعادة إنتاج صورة تركيا بوصفها قوة إقليمية إسلامية، خاصة على الساحة السورية، أكثر من كونها أداة اقتصادية مؤثرة في إسرائيل، بما يتيح لأنقرة مساحة مناورة مستقبلية إذا تبدلت الظروف الإقليمية، أو الضغوط الدولية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.