أبحاث ودراسات

الرويّة الروسية تجاه ليبيا.. امتداد إستراتيجي بين الماضي والحاضر


  • 1 فبراير 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: adf-magazine.com

منذ حقبة الاتحاد السوفيتي، كانت ليبيا محورًا مهمًا في الإستراتيجية السوفيتية الرامية إلى توسيع نفوذها في شمال إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، في إطار التنافس الجيوسياسي مع الغرب خلال الحرب الباردة. برزت ليبيا حليفًا محتملًا؛ نظرًا إلى موقعها الإستراتيجي وثرواتها النفطية الضخمة، إذ سعى الكرملين إلى إقامة علاقات وثيقة معها كجزء من سياسته الرامية إلى اختراق المنطقة العربية، وإضعاف النفوذ الغربي، لكن العلاقات الليبية السوفيتية لم تكن سلسة؛ فقد اصطدمت المصالح السوفيتية بالعلاقات الوثيقة التي ربطت ليبيا مع الولايات المتحدة وبريطانيا؛ مما دفع موسكو إلى استخدام إستراتيجيات طويلة المدى للاندماج في المشهد الليبي عبر التعاون العسكري، والدعم الاقتصادي. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي، شهدت العلاقات بين موسكو وطرابلس فترة من التراجع، لكن عودة روسيا الاتحادية إلى الساحة الدولية في العقدين الأخيرين أعادت تشكيل الرؤية الروسية تجاه ليبيا، حيث تنظر موسكو إلى ليبيا بوصفها بوابة جيوسياسية حيوية تؤثر في التوازنات الإقليمية والدولية. وتكثف روسيا اليوم جهودها لاستعادة نفوذها من خلال دعم أطراف سياسية وعسكرية متعددة، مثل تحالفها مع المشير خليفة حفتر في الشرق الليبي، وتقديم الدعم الفني والعسكري رغم الضغوط الدولية. تعكس هذه التحركات الطموح الروسي في تحقيق حضور دائم في منطقة المتوسط، والاستفادة من الفراغ الأمني والسياسي الذي تركه التدخل الغربي الفاشل، مما يمنح موسكو فرصة لتعزيز وجودها بوصفها وسيطًا محوريًّا في النزاع الليبي، بما يتماشى مع مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية في الطاقة والأمن. في ظل هذه الرؤية، تسعى روسيا إلى تقديم نفسها بديلًا موثوقًا به مقارنة بالغرب، مدعومة بمرونتها الدبلوماسية، وغياب القيود الأيديولوجية التي كانت تفرضها الحرب الباردة، وهو ما يتيح لها هامشًا أوسع للتأثير في مستقبل ليبيا والمنطقة بكاملها.

إضافة إلى ذلك، تستند الإستراتيجية الروسية في ليبيا إلى مزيج من الأدوات السياسية والعسكرية والاقتصادية، حيث تسعى موسكو إلى ترسيخ وجودها عبر تقديم الدعم العسكري غير المباشر من خلال شركات الأمن الخاصة، مثل مجموعة “فاغنر”، التي أدت دورًا بارزًا في دعم قوات المشير حفتر خلال النزاع المسلح ضد حكومة الوفاق الوطني السابقة. وقد أتاح لها هذا التدخل ترسيخ حضورها في البنية الأمنية الليبية، مما منحها نفوذًا على قرارات الحرب والسلم في البلاد، فضلًا عن تعزيز قدراتها في مراقبة طرق الهجرة غير الشرعية والتجارة غير المشروعة عبر الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، وهو ما يمنحها ورقة ضغط مهمة في مواجهة أوروبا، وخاصة إيطاليا وفرنسا.

من الناحية الاقتصادية، تدرك موسكو أهمية ليبيا بوصفها لاعبًا رئيسًا في سوق الطاقة، حيث تملك البلاد واحدًا من أكبر احتياطيات النفط في إفريقيا؛ مما يجعلها هدفًا إستراتيجيًّا للشركات الروسية الرائدة، مثل “غازبروم”، و”روسنفت”، اللتين تسعيان إلى استعادة العقود التي أبرمتها روسيا في عهد القذافي، التي بلغت قيمتها مليارات الدولارات. ولعل تعزيز موسكو لعلاقاتها مع الشرق الليبي، حيث تقع معظم حقول النفط الكبرى، يعكس توجهها نحو ضمان حضور دائم في قطاع الطاقة الليبي، مما يمنحها أوراق ضغط قوية في سوق النفط العالمية، خاصة في ظل تقلبات الإنتاج والأسعار في ظل التنافس مع منتجي النفط الآخرين.

سياسيًّا، تعتمد روسيا على نهج متعدد الأبعاد يجمع بين الحفاظ على علاقات جيدة مع جميع الأطراف الليبية، ومنها حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، وبين دعم القوى المهيمنة في الشرق، مما يسمح لها بأداء دور الوسيط القادر على التأثير في مسار التسوية السياسية. وقد تجلى ذلك في جهودها الدبلوماسية المستمرة لإيجاد حلول سياسية متوازنة عبر مسارات تفاوض متعددة، مثل مؤتمر برلين، حيث سعت موسكو إلى تعزيز مشاركتها بوصفها ضامنًا لأي تسوية مستقبلية، بعيدًا عن إقصاء أي طرف ليبي رئيس.

وفي إطار أوسع، تشكل ليبيا جزءًا من الإستراتيجية الروسية الهادفة إلى إعادة التموقع في إفريقيا، حيث تسعى موسكو إلى استخدام وجودها في ليبيا كنقطة انطلاق لتعزيز تعاونها العسكري والاقتصادي مع الدول المجاورة، مثل النيجر، وتشاد، والسودان. وقد أثبتت التقارير الأخيرة تعزيز موسكو اتصالاتها الأمنية مع شركائها في الساحل الإفريقي عبر القواعد العسكرية التي أنشأتها في جنوب ليبيا؛ مما يعكس رؤية بعيدة المدى تهدف إلى احتواء النفوذ الغربي في إفريقيا، واستبدال النفوذ الروسي المتعدد المستويات به.

وعلى الرغم من العقوبات الدولية المفروضة على ليبيا، فإن موسكو استطاعت تطوير أدواتها بطرق غير مباشرة لتحقيق أهدافها الإستراتيجية، فقد لجأت إلى قنوات غير رسمية لنقل الأسلحة والمعدات عبر دول الجوار، وشاركت في عمليات إعادة الإعمار مقابل حصولها على عقود طويلة الأمد في مجالات البنية التحتية والطاقة. كما عززت علاقاتها مع دول إقليمية، مثل مصر والجزائر، لتوسيع دورها بوصفها لاعبًا رئيسًا في الملف الليبي، حيث ترى موسكو أن استقرار ليبيا يمثل مدخلًا لتعزيز الأمن الإقليمي بما يخدم مصالحها على المدى البعيد.

المشير خليفة حفتر.. الحليف الإستراتيجي لروسيا في الشرق الليبي

يُعد المشير خليفة حفتر شخصية محورية في المشهد السياسي والعسكري الليبي، حيث تمكن من فرض سيطرته على المناطق الشرقية من البلاد، مستندًا إلى دعم قوي من عدة أطراف دولية، من بينها روسيا. يمثل حفتر لموسكو شريكًا إستراتيجيًّا يمكن الاعتماد عليه لتحقيق أهدافها في ليبيا، حيث تبنى سياسة متشددة تجاه الجماعات الإسلامية، وهو ما يتماشى مع المصالح الروسية في محاربة الإرهاب، وتعزيز الاستقرار الأمني في المناطق الغنية بالنفط. وقد استفاد حفتر من الدعم العسكري الروسي، سواء عبر التدريب، أو من خلال التزود بالمعدات العسكرية، بالإضافة إلى الدعم السياسي والدبلوماسي الذي قدمته موسكو له في المحافل الدولية. وعلى الرغم من العقوبات الدولية المفروضة على بعض أركان قيادته، فإن حفتر يواصل تعزيز نفوذه في الشرق الليبي؛ مما يمنح روسيا فرصة لترسيخ وجودها الطويل الأمد في البلاد.

عبد الحميد الدبيبة.. الديناميكية السياسية والتوازن مع روسيا

في الغرب الليبي، برز عبد الحميد الدبيبة رئيسًا لحكومة الوحدة الوطنية، التي نالت اعترافًا دوليًّا واسعًا؛ مما جعله لاعبًا أساسيًّا في المشهد الليبي. ومع أن الدبيبة يعتمد على دعم الأمم المتحدة والدول الغربية، فإنه يحافظ على نهج سياسي يسعى إلى تحقيق توازن في العلاقات الخارجية، بما في ذلك مع روسيا. تسعى موسكو إلى توثيق علاقاتها مع حكومته من خلال القنوات الاقتصادية، لا سيما عبر التعاون في قطاع الطاقة، وإعادة الإعمار. يدرك الدبيبة أهمية الدور الروسي في الملف الليبي؛ لذلك يحاول الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع موسكو، رغم الضغوط الغربية الرامية إلى الحد من النفوذ الروسي في ليبيا. وتتمثل التحديات الرئيسة التي يواجهها الدبيبة في التعامل مع الوجود العسكري الروسي في الشرق الليبي، حيث يسعى إلى تحقيق وحدة وطنية، مع الحفاظ على استقلالية القرار الليبي.

الصراع بين الشرق والغرب الليبي وتأثيره في المصالح الروسية

يُشكل الصراع المستمر بين حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس والسلطات القائمة في الشرق الليبي تحديًا كبيرًا للاستقرار، وهو ما تحاول روسيا استغلاله لصالحها من خلال بناء علاقات مع كلا الطرفين. فبينما تدعم موسكو حفتر لضمان سيطرتها على الهلال النفطي، فإنها في الوقت نفسه تحافظ على علاقات دبلوماسية واقتصادية مع طرابلس لضمان استمرار نفوذها في المشهد السياسي المتغير. هذا التوازن الدقيق يمنح روسيا القدرة على التأثير في أي تسوية سياسية مقبلة، كما يتيح لها المجال لأداء دور الوسيط المقبول بين الأطراف المتنازعة، وهو ما يمثل رصيدًا إستراتيجيًّا لموسكو في حالة حدوث تحولات جديدة في ليبيا.

البرلمان الليبي والمجلس الأعلى للدولة.. مؤسسات في صراع النفوذ الروسي والغربي

تمثل المؤسسات التشريعية الليبية، مثل البرلمان الليبي في طبرق، والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس، ساحات للصراع بين القوى المتنافسة محليًّا ودوليًّا، حيث يسعى البرلمان، الذي يهيمن عليه مؤيدو حفتر، إلى تعزيز التعاون مع روسيا في مجالات الأمن والطاقة، في حين يحاول المجلس الأعلى للدولة الحفاظ على العلاقات التقليدية مع الغرب، لا سيما الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. في هذا السياق، تواصل روسيا تقديم نفسها شريكًا موثوقًا به يمكنه دعم مؤسسات الدولة الليبية لتحقيق الاستقرار، من خلال توفير الدعم الفني والمساعدات الأمنية التي تسهم في تعزيز شرعية هذه المؤسسات على الصعيدين الداخلي والخارجي.

الموقف الدولي وتأثيره في النفوذ الروسي بليبيا

تخضع ليبيا لتأثيرات مباشرة من الأطراف الدولية الفاعلة، حيث تتنافس قوى، مثل تركيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة، مع روسيا على النفوذ في البلاد. تركيا، على سبيل المثال، تدعم حكومة طرابلس عسكريًّا واقتصاديًّا، مما يعقد جهود موسكو في التوسع غرب البلاد. في المقابل، تحاول روسيا تعزيز وجودها من خلال التفاهمات مع القوى الأوروبية، مثل إيطاليا التي تخشى تصاعد النفوذ الروسي في قطاع الطاقة والهجرة غير الشرعية. يفرض هذا المشهد المعقد على موسكو اتباع سياسات أكثر حذرًا تضمن لها الوجود في ليبيا، دون الدخول في صدام مباشر مع أي طرف دولي مؤثر.

الديناميكيات القبلية وتأثيرها في السياسات الروسية بليبيا

تضطلع القبائل الليبية بدور محوري في المشهدين السياسي والاجتماعي، وهو ما لم تغفله الإستراتيجية الروسية، فقد سعت موسكو إلى استقطاب زعماء القبائل، لا سيما في المناطق الشرقية والجنوبية؛ لضمان دعمهم للوجود الروسي، سواء من خلال تقديم المساعدات الإنسانية، أو من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني. في هذا السياق، تستخدم روسيا دبلوماسية القبلية لضمان ولاء الأطراف الفاعلة محليًّا؛ مما يضمن لها استقرار وجودها، بعيدًا عن الصراعات السياسية التقليدية.

آفاق المستقبل.. السيناريوهات المحتملة للدور الروسي في ليبيا

مع استمرار حالة عدم الاستقرار في ليبيا، تظل روسيا لاعبًا رئيسًا يسعى إلى تحقيق أهدافه الإستراتيجية عبر مسارات متعددة؛ فمن المحتمل أن تسعى موسكو إلى تعزيز دورها العسكري في الشرق، مع توسيع نفوذها الاقتصادي في الغرب، معتمدة على المرونة في التعامل مع القوى الإقليمية والدولية. ومع استمرار الصراع بين القوى السياسية الليبية، ستكون موسكو مطالبة بالتعامل بحذر للحفاظ على توازن علاقاتها مع مختلف الأطراف، وضمان مصالحها الإستراتيجية في المنطقة.

الاستنتاجات

تعكس الرؤية الروسية تجاه ليبيا امتدادًا إستراتيجيًّا يجمع بين المصالح الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية، إذ تسعى موسكو إلى استعادة نفوذها التاريخي في البلاد من خلال دعمها الأطراف الفاعلة، مثل المشير خليفة حفتر في الشرق، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس. يرتكز الوجود الروسي في ليبيا على إستراتيجيات متعددة، تشمل الدعم العسكري غير المباشر من خلال شركات الأمن الخاصة، والاستثمارات الاقتصادية في قطاع الطاقة، والدبلوماسية المرنة التي تسعى من خلالها إلى أداء دور الوسيط الدولي المؤثر. كما تشكل ليبيا نقطة انطلاق رئيسة لروسيا نحو منطقة الساحل الإفريقي، إذ تعمل على تعزيز حضورها الأمني والاقتصادي بالتعاون مع حلفائها الإقليميين، مثل مصر، وتشاد، والنيجر. في المقابل، يواجه النفوذ الروسي تحديات كثيرة، أبرزها التنافس الإقليمي مع القوى الغربية وتركيا، إضافة إلى الانقسامات السياسية الداخلية التي تعرقل جهود موسكو في تحقيق الاستقرار المستدام. ومع ذلك، تواصل روسيا اتباع نهج مرن، يتيح لها تعزيز وجودها في ليبيا تدريجيًّا؛ مما يمنحها أوراق ضغط قوية على الساحة الدولية، خاصةً في ملفات الهجرة غير الشرعية، والطاقة.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع