مفهوم الرسالة الحضارية الروسية ظهر في وقت ليس ببعيد. ومع تغير التوجه لدى القيادة الروسية، أصبح الحديث عنه أكثر فأكثر في الأوساط السياسة الروسية، وخاصةً بعد ظهور حدة في المواجهة بين روسيا والغرب في مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي، الذي انتشر منذ وقت ليس ببعيد، ويُسمى روسيا دولة الحضارة، أي هو مصطلح جديد بداعي استعماله أساسًا مهمًّا لفهم روسيا. إن إدراج هذا الحكم في المفهوم يمثل رفضًا للنهج السابق لصياغة إستراتيجية السياسة الخارجية الروسية: إذا كانت الأولوية في وقت سابق هي أن تصبح روسيا جزءًا مما يسمى العالم المتحضر، للاندماج في بعض المشروعات الكبيرة، فإنها الآن بعد أن أدركت وقبلت مكانتها بوصفها دولة حضارة، تسعى إلى التأكيد لنفسها- بكل طريقة ممكنة في العالم- أنها دولة قوية متمكنة اقتصاديًّا.
الرسالة الحضارية الروسية هو مصطلح يثير اهتمامًا كبيرًا، وصعب التفسير في سياق عملي وليس فلسفيًّا. السمة الأساسية للرسالة الحضارية الروسية هو الاكتفاء الذاتي، حيث لا تحتاج روسيا أن تسعى إلى الاندماج في الهياكل التي لم تؤسسها. التحول الكمي في السياسة الخارجية، خاصة مقارنة بالاتحاد السوفيتي وروسيا في الفضاء الدولي منذ أواخر الثمانينيات، يبرز في التركيز على الوضع الحضاري لروسيا.
بعد إعلان عقيدة التفكير الجديدة، سعت روسيا- باستمرار- إلى إثبات وجودها وضرورتها في مكان ما، وهي اليوم واثقة من عدم الحاجة إلى الدخول في أي مكان، على الرغم من كون روسيا مجتمعًا خاصًا، لكنها لا تعزل نفسها، وتظل جزءًا لا يتجزأ من العالم الأوسع.
تبنت روسيا منهجًا إستراتيجيًّا جديدًا يهدف إلى تحديد دورها وتأثيرها في النظام العالمي، ويركز على الرسالة الحضارية الروسية بوصفها محورًا أساسيًّا لتحقيق ذلك. تعكس السياسة الخارجية الروسية استعداد روسيا للمشاركة في خلق نظام جديد مع حلفائها، معبرة عن التحول الذي تشهده القواعد الدولية، والتحديات الجديدة التي تطرأ.
في الفترة الحالية، تتبنى روسيا نهجًا يؤكد أهمية الحضارة الروسية في تحديد ملامح دورها العالمي. إن الحضارة لا تعكس الجوانب التقليدية والثقافية فحسب؛ بل تُبرز أيضًا الجوانب الحديثة، والتطورات التكنولوجية التي تسعى روسيا إلى تحقيقها.
تعد روسيا داعمة لفكرة عالم متعدد الأقطاب، حيث تسعى إلى تعزيز التوازن والتفاعل بين مختلف القوى العالمية. يظهر النص كيف أن روسيا تسعى إلى تحقيق تأثير متميز في مختلف المجالات، سواء في السياسة، أو الاقتصاد، أو التكنولوجيا، من خلال التركيز على الرسالة الحضارية الروسية، ومن المهم الحديث هنا عن الجهود التي تبذلها روسيا لتعزيز تفاعلها مع العالم، وعلى أهمية الحوار الحضاري والتبادل الثقافي.
أسس الرسالة الحضارية الروسية هي أن الثقافة الغربية في حالة تدهور كبير؛ ولذلك فإن على روسيا الابتعاد عن الفكر الغربي، الذي أصبح غير قادر على حل المشكلات الأساسية في المجتمع.
في رسالته الرابعة عشرة إلى الشعب الروسي والعالم أجمع، قدّم الرئيس فلاديمير بوتين رؤيته غير التقليدية لتحقيق تقدم في مختلف جوانب الحياة في روسيا. بدأ الرئيس بتسليط الضوء على التحديات الحضارية التي تواجه روسيا، والتي تتطلب تنمية مستدامة في مختلف المجالات الاجتماعية.
في السياق العالمي الحالي، يرى الرئيس أن تحقيق التنمية المستدامة يمثل تحديًا حضاريًّا لروسيا، مثل أي دولة أخرى، ويرى أن الركوب على موجة التنمية المستدامة يتطلب اتخاذ إجراءات فعّالة، وخطوات جادة نحو تعزيز القدرات الإبداعية للمجتمع الروسي، ويؤكد أن الرد على هذا التحدي يجب أن يكون جزءًا من إطار قانوني حضاري خاص بروسيا.
يشير الرئيس إلى أن التنمية المستدامة تتطلب اختراقًا حقيقيًّا في مجال التطوير الإبداعي والشامل، ويؤكد أهمية تعزيز القدرات الإبداعية للحضارة الروسية، التي أثبتت تاريخيًّا قدرتها على استيعاب الإمكانات الإبداعية سريعًا.
وبينما يركز الرئيس على تعزيز الإمكانات البشرية، يبرز أهمية زيادة حجم التعليم والخدمات الصحية وجودتهما، وتعزيز فاعلية البحث العلمي، ويشدد على ضرورة تعزيز إمكانات تنظيم المشروعات في المجتمع الروسي، وتحسين جودة الإدارة العامة.
وفي سعيه إلى تحقيق التقدم، يحدد الرئيس أن التركيز الرئيس يجب أن يكون على تحقيق النمو الاقتصادي بمعدلات أعلى من المتوسط العالمي، وزيادة مستمرة في إنتاجية العمل. كما يتحدث عن التحول التكنولوجي والرقمي الذي يجب أن يشمل جميع جوانب الحياة الاجتماعية، والصناعية.
وفي السياق الشخصي، يؤكد الرئيس أن الهدف النهائي هو تحسين حياة المواطن الروسي، ويشمل ذلك ليس فقط تحسين مستوى استهلاك السلع والخدمات، ولكن أيضًا تحسين الموائل الاجتماعية، والمكانية، والبيئية، ويستشهد بأهمية تحقيق مؤشرات متكاملة لتحسين نوعية الحياة، مثل زيادة متوسط عمر الإنسان.
وفي ختام رسالته، يشير الرئيس إلى أهمية توسيع مساحة الحرية في جميع المجالات، وتعزيز الديمقراطية والمجتمع المدني. وهو يرى ذلك ليس فقط كشرط لتعبئة الإمكانات الإبداعية؛ ولكن أيضًا كفرصة اجتماعية قيمة للمواطنين الروس.
مع الصراع الروسي الأوكراني نرى تشكل تحالف روسي صيني، وتحالف الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. في السابق، كانت روسيا مرتبطة ارتباطًا كاملًا بالسياسة الأمريكية وقراراتها في حقبة بوريس يلتسين، وجزء من حقبة فلاديمير بوتين، أما الآن فقد أصبحت السياسة الروسية مستقلة.
إذا تحدثنا عن الأسس، فيمكن القول إن الرسالة الحضارية الروسية هي مفهوم يعبر عن الدور الفريد الذي اضطلعت به روسيا في تطور التاريخ والثقافة، وكيف أنها قدمت إسهامات كبيرة في مجالات مختلفة. يمكننا مناقشة كثير من النواحي المتعلقة بالرسالة الحضارية الروسية، وهنا بعض النقاط التي يمكننا التحدث عنها:
الأدب الروسي: يشتهر الأدب الروسي بأعماله الكلاسيكية التي تعكس الجوانب الروحانية للشعب الروسي. يمكن ذكر كتاب مشهور، مثل “الأخوة كارامازوف” لدوستويفسكي، و”الحرب والسلام” لتولستوي.
الفنون البصرية: الفن الروسي، سواء أكان ذلك في مجال الرسم، أم النحت، أم العمارة، أسهم في تشكيل المشهد الفني العالمي.
الموسيقى الكلاسيكية الروسية: تأثرت الموسيقى الروسية تأثرًا كبيرًا بالثقافة والتقاليد الشعبية الروسية. وويُعد تشايكوفسكي وراخمانينوف من بين أشهر المؤلفين الروسيين للموسيقى الكلاسيكية.
العلوم والرياضيات: تأتي روسيا بتاريخ طويل من الإسهامات في مجالات العلوم والرياضيات، وكان لديها علماء بارعون في مجالات مثل الفيزياء، والرياضيات.
التقاليد الدينية: الديانة الأرثوذكسية الشرقية لها دور كبير في الثقافة الروسية، ويظهر تأثيرها في كثير من الجوانب الثقافية والفنية.
التأثير السوفيتي: يجب أيضًا النظر إلى تأثير الفترة السوفيتية في الرسالة الحضارية الروسية، حيث شكلت الثورة البلشفية وفترة الاتحاد السوفيتي كثيرًا من الجوانب الثقافية والاجتماعية.
اللغة الروسية: تضطلع اللغة الروسية بدور مهم في الحفاظ على الهوية الثقافية الروسية، وانتقال الرسالة الحضارية.
السياسة الخارجية الروسية: ترى السياسة الخارجية الروسية أن لها طريقًا فريدًا مستقلًا، وهو ليس الطريق الذي سلكته في السابق نحو أوروبا.
يمكن القول إن الرسالة الحضارية الروسية تحاول أن تبني طريقًا فريدًا لروسيا من جهة، وتؤسس فكر عالم أكثر عدلًا وفقًا للرؤية التي تتحدث عنها روسيا؛ ولذلك تُظهر الرسالة الحضارية الروسية في ظل النظام العالمي الجديد قيد التشكيل رؤية طموحة، وتحديات متعددة تواجه الدولة الروسية. من خلال التحليل الشامل للرسالة، يمكن الوصول إلى استنتاجات مهمة، تكشف عن السياق، والأهداف، والتحديات التي تطرحها روسيا في هذا النطاق.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.