تنصّب معظم التحليلات على مساعي الإمارات نحو توسيع نفوذها في الشرق الأوسط وإفريقيا، متجاهلةً محاولات أبو ظبي الحثيثة لترسيخ نفسها لاعبًا في آسيا الوسطى من خلال الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية، والطاقة، والاقتصاد، والأمن. إن تركيز الدولة الخليجية على قلب الكتلة الأرضية الأوراسية في السنوات القليلة الماضية يعكس رغبتها في الحصول على حصتها في المصالح الإستراتيجية المقسمة بين روسيا والصين، كما تسلط جهود أبو ظبي الضوء أيضًا على الجمهوريات الخمس بوصفها ساحة للتزاحم مع منافسيها التقليديين، كتركيا، وإيران، والسعودية.
بدأت الإمارات علاقاتها مع جمهوريات آسيا الوسطى في السنوات الأولى لاستقلالها، إذ طمحت أبو ظبي إلى ترسيخ مكانتها في مستقبل آسيا الوسطى لتحقيق أهدافها الجيوسياسية والجيواقتصادية، إذ تمتلك تلك الدول إمكانات للاستثمار في القطاعات الرئيسة. كما يشكل دعم الإمارات للصين في مبادرة الحزام والطريق عنصرًا أساسيًّا في إستراتيجية الإمارات تجاه الجمهوريات الخمس، فنجحت أبو ظبي في ضم أوزبكستان وكازاخستان إلى مبادرة الجواز اللوجستي العالمي ضمن مشروع خط دبي للحرير، الذي تسعى من خلاله الإمارات إلى توسع دائرة الروابط التجارية بين الدول، لتشمل كثيرًا من المراكز والبوابات التجارية الممتدة عبر أمريكا اللاتينية، ودول آسيا، والشرق الأوسط وأفريقيا.
فضلًا عن هذا، فإن تنويع المحفظة المالية للإماراتيين هو هدف رئيس وراء اهتمام الإمارات بآسيا الوسطى، ومع ذلك، فإن المصالح الإماراتية في هذه المنطقة الإستراتيجية تتجاوز مجرد الاستثمار؛ إذ تسلط علاقات الإمارات على دول آسيا الوسطي، خاصةً كازاخستان وتركمانستان، الضوء على الدور الذي تضطلع به شركة موانئ دبي العالمية في بناء ليس فقط مواني بحر قزوين، ولكن أيضًا مواني روسيا في القطب الشمالي؛ ما يمثل تعبيرًا بارزًا عن طموح الإمارات في أن تصبح قوة عظمى في مجال الخدمات اللوجستية البحرية.
وتكشف السياسة الخارجية لأبو ظبي الأهمية المتزايدة التي تحظى بها الجمهوريات الخمس في الخطط الإستراتيجية للإمارات، إذ يُبرز التنافس مع القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في آسيا الوسطى في مجالات الاقتصاد والطاقة، إلى جانب الحضور الإستراتيجي لأبو ظبي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الطبيعة المتنوعة لمشاركتها، إذ استخدمت المملكة الخليجية مواردها المالية على نحو إستراتيجي لتعزيز نفوذها في الستانات الخمس، ومن خلال الاستثمارات والتجارة، برزت بوصفها لاعبًا مهمًّا في النمو الاقتصادي للجمهوريات المحلية. واستكمالًا لهذا النهج، حاولت أبو ظبي أن تضطلع بدور محوري في إستراتيجية الأمن الغذائي لتلك الدول.
طوَّرت الإمارات شراكة ديناميكية ومتعددة الأوجه مع الجمهوريات الخمس على مدى العقود الثلاثة الماضية، برزت أهم أدواتها فيما يلي:
كما أنشأت الشركة الإماراتية “مصدر” مشروعات للطاقة المتجددة في كازاخستان وأوزبكستان، إذ سيُصدر قدر أكبر من الكهرباء المولدة إلى أوروبا من خلال كابلات بحرية عبر بحر قزوين والبحر الأسود، وعلى نحو مماثل، شاركت عدد من الشركات الإماراتية، مثل شركة أبو ظبي الوطنية للطاقة، في مجال طاقة الرياح عبر بناء مرافق ذات قدرات تتراوح من عشرات إلى مئات الميجاواطات في آسيا الوسطى.
كما تتعاون شركة بترول أبو ظبي الوطنية (أدنوك) في قطاع البتروكيماويات في الحقول البحرية في كازاخستان وتركمانستان، ويشمل هذا التعاون بناء صناعات ذات قيمة مضافة تمكن هذه الدول من تصدير المنتجات البتروكيماوية المكررة، فضلًا عن إنشاء دبي مركز أستانا المالي الدولي، الذي قد يحول كازخستان إلى مركز مالي رئيس لآسيا الوسطى في إطار مبادرة الحزام والطريق.
رغم التحديات الداخلية والخارجية التي تحيط ببلدان آسيا الوسطى، فإن تلك البلدان تعوّل على الإمارات في تحقيق التوازن بين القوى الإقليمية والدولية في المنطقة؛ لذا تسعى أبو ظبي -على نحو منهجي- إلى توظيف البعدين الجغرافي والاقتصادي في آسيا الوسطى لتعزيز مصالحها، مع اهتمام سياسي محدود يجعل تدخل الإمارات في الجمهوريات الخمس ذا طابع إيجابي، ما يرجح استمرار نهج أبو ظبي تجاه آسيا الوسطى في التركيز على مشروعات البنية الأساسية، بالتوازي مع مجالي الطاقة والتمويل، غير أن تعزيز العلاقات الدفاعية والأمنية قد يصبح هدفًا أكبر للإماراتيين في السنوات المقبلة عبر الشركات الأمنية التي تعتمد عليها الدولة الخليجية لترسيخ نفوذها في كثير من البلدان.
ولعل مستقبل التوغل الإماراتي في آسيا الوسطى مرهون بالكيفية التي ستدعم بها روسيا والصين تلك التحركات، إذ إن كلاً من موسكو وبكين تستفيد من السياسة الإماراتية تجاه آسيا الوسطى، إذ حفز هذا النوع من التعاون الإماراتي تدشين علاقة إستراتيجية وثيقة في الجمهوريات الخمس من حيث قدرة الإمارات على أن تكون مستثمرًا مستدامًا، بما يحقق المصالح الأمنية لكل من روسيا والصين في تلك المنطقة؛ لذا من المنتظر أن تضطلع البلدان بدور رئيس في تلك العلاقات الناشئة، وخاصة في الحالات التي قد يؤدي فيها الاستحواذ الكبير للإمارات على مصالح المنطقة إلى إلحاق الضرر بالمصالح الروسية والصينية.
يشير توجه أبو ظبي نحو الشمال إلى جمهوريات آسيا الوسطى، لا سيما كازاخستان وتركمانستان، إلى إستراتيجية جيوسياسية وجيواقتصادية واضحة. وفي الوقت الذي تتنافس فيه القوى الإقليمية والدولية في آسيا الوسطى، تظل الإمارات بعيدة عن تلك المنافسة، فقد سمح تركيز أبو ظبي على المجالات الاقتصادية بترسيخ وجودها في المنطقة دون إثارة صراعات أو ردود فعل عنيفة من المنافسين على المدى المنظور.
ولكن في الأمد المتوسط، قد تنشأ منافسة أقوى مع القوى الإقليمية، مثل تركيا، وإيران، وروسيا إذا وسعت الإمارات نفوذها ليشمل قطاعات اقتصادية أخرى، أو قطاعات أمنية، وقد تنظر هذه القوى إلى أبو ظبي باعتبارها منافسة لها، وهو ما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة، في حين أنه على المدى الطويل، قد تتطلب زيادة المشاركة الإماراتية في المنطقة تحوطًا دبلوماسيًّا مكلفًا لمنع التوترات الوشيكة؛ لذا يتعين على أبو ظبي تقييم الفوائد المترتبة على توسيع دورها في آسيا الوسطى بما يتجاوز تركيزها الاقتصادي الحالي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.