تقارير

الحضور الروسي في منطقة الساحل الإفريقي.. بين الواقع والمأمول


  • 8 مايو 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: kyivindependent.com

مقدمة

هناك رواية تقول إن الصينيين عندما يلعنون أحدًا يقولون له: “أتمنى لك أن تعيش في زمن التحولات والتغيير”.

ويبدو أن الولادة الجديدة للدول الساحل الإفريقي جاءت في زمن التحولات والتغيير .

لقد أردنا البدء بهذه الرواية الصينية تعبيرًا عن مشاعر سكان بلدان الساحل وهم يرون هذا التحول العسير بين الماضي الاستعماري وما تبعه من استقلال صوري- إلى حد كبير- والميلاد الجديد، حيث تشهد بعض دول الساحل بروز قادة شباب جدد، يرفعون شعارات السيادة الوطنية، والتحرر من جمر رواسب الاستعمار وشركاته، وقواه التي سيطرت على كل فترات الحكم تقريبًا في هذه الدول بعد الخروج الغربي منها .

وأردنا من هذه الدراسة التركيز على دول الساحل الخمس الكبرى كنماذج يمكن الاستدلال بها، حيث تشهد تنافسًا دوليًّا عليها، وبكل تأكيد فإن روسيا جزء من الدول التي تضطلع بدور مهم في هذا التنافس، وهذه الدول هي: مالي، وموريتانيا، وبوركينا فاسو، والنيجر، وتشاد .

الموقع الجغرافي

تحتل منطقة الساحل الإفريقي مساحة شاسعة، حيث تمتد من إريتريا والسودان على البحر الأحمر حتى موريتانيا المطلة على المحيط الأطلسي.

هذه المساحة الشاسعة، وما تحتويه من ثروات طبيعية ضخمة، من غاز، وذهب، ويورانيوم، وثروة سمكية، وثقل بشري مهم أكثره من الشاب، وإطلالة بعض دول المنطقة على أوروبا، وما يطرحه ذلك من حساسية وتحدٍّ أمني فما يخص الهجرة غير الشرعية، أضف إلى ذلك ضعف البنية السياسية لمعظم الأنظمة الحاكمة في المنطقة، كل هذا جعل منطقة الساحل عرضة للتنافس الدولي، ومسرحًا من مسارح ممارسة لعبة النفوذ والقوة بين دول العظمي .

 هنا تأتي أهمية استقراء العلاقة القديمة الجديدة بين هذه الدول وروسيا الاتحادية، حيث شهدت السنوات الأخيرة دفعة قوية لتلك العلاقة، فزادت زيارات الوفود الرسمية، وتعاظم التعاون الاقتصادي والأمني بينهما، وخرجت كثير من الحشود في عواصم بعض دول ساحل حاملة العلم الروسي وصور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ تعبيرًا عن الترحيب بالقادم الجديد إلى المنطقة .

مالي.. نموذج موسكو لإفريقيا

تبدو مالي التعبير الأبرز عن مدى جدية موسكو في تطوير علاقتها بدول الساحل خاصةً، وإفريقيا عامةً، حيث تسعى موسكو إلى إرساء دعائم نظام قوي، وتقديمه نموذجًا يحتذى به .

فالدولة الحبيسة مالي شهدت في السنوات الأخيرة عدة تحولات سياسية وأمنية خطيرة، كادت في بعض الأحيان تعصف بكيان الدولة، حيث كانت باماكو قاب قوسين أو أدنى من السقوط.

وفي 20 أغسطس (آب) 2020، قاد آسيمي غويتا، وهو شاب في الأربعينيات من عمره، ويعمل ضابطًا برتبة عقيد في الجيش المالي، مع مجموعة من الضباط، انقلابًا عسكريًّا أطاحوا من خلاله بالرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا، قبل أن يتولى بنفسه رئاسة البلاد رسميًّا في يونيو (حزيران) 2021 .

وبعد توليه الرئاسة، حمل القائد الشاب والنخبة القادمة معه شعار استعادة الدولة الوطنية، وبسط نفوذها على أراضيها كاملةً، ومناهضة الوجود  الغربي عامةً، والفرنسي خاصةً، وكان الخطاب يحمل سؤالًا بسيطًا، وهو: بعد ستين سنة من استقلال مالي، ووجود الشركات الاقتصادية الفرنسية المسيطرة على اقتصاد الدولة، ماذا استفاد الشعب المالي؟ وهو سؤال تبدو الإجابة عنه واضحة لدى عامة الشعب، فلا وجود للصحة، ولا التعليم، ومعدلات الفقر مرتفعة، والبطالة تنخر صفوف الشباب المالي. كل هذا جعل الماليين الداعم الأول للرئيس الشاب، وقد كانت موسكو من الداعمين الأبرز لهذا التحول، حيث استفاد الجيش المالي من هذا التعاون، إذ زودته روسيا بكثير من المروحيات القتالية والأسلحة، وهو ما أسهم في استعادة الجيش كثيرًا من المناطق، وبسط سيطرته عليها.

كما كانت مالي من الدول التي استفادت من مبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث أُرسلت شحنات تقدر من 25 إلى 50 ألف طن من الحبوب إلى بعض الدول الإفريقية مجانًا، كان من بينها مالي، وبوركينا فاسو، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وإريتريا.

الاستثناء الموريتاني

تبدو موريتانيا واحة الاستقرار في منطقة تشهد اضطرابات أمنية منذ سنوات، فالبلاد المطلة على المحيط الأطلسي لم تشهد أي هجمات إرهابية منذ سنوات، كما تم تداول السلطة فيها بسلام، حيث تسلم الرئيس الغزواني السلطة خلفًا للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، بعد الانتخابات الرئاسية عام 2019 .

علاقة نواكشوط وموسكو تنمو باطّراد، حيث زار الرئيس الغزواني روسيا، وتحديدًا سوتشي، بعيد انتخابه بقليل، وشارك في القمة الروسية الإفريقية، كما قام رأس الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف بزيارة رسمية إلى نواكشوط تعد هي الأولى في تاريخ العلاقات بين البلدين، وزادت موسكو حصة موريتانيا من المنح الدراسية التي تقدمها للطلاب الأفارقة .

على المستوي الأمني تبدو نواكشوط حريصة على تنمية العلاقات مع موسكو، حيث وقع وزير الدفاع الموريتاني مع نائب وزير الدفاع الروسي مذكرة تفاهم بين الدولتين، على هامش مشاركته في مؤتمر موسكو التاسع للأمن الدولي .

زاد الثقل الإستراتيجي لموريتانيا مع اكتشاف حقول الغاز التي ستجعلها من كبار مصدري الغاز في إفريقيا. كما أن عامل الاستقرار جعل المنظومة الغربية تركز أكثر على نواكشوط، حيث زاد التعاون العسكري بين الجيش الموريتاني وحلف شمال الأطلسي، كما وُقِّعَت اتفاقية مكافحة الهجرة غير الشرعية بينها وبين الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك، تريد موريتانيا علاقات متوازنة مع الجميع، وهو ما يجعلها مقبولة من الجميع، على الأقل إلى الآن .

بوركينا فاسو.. النقيب الثوري

شهدت بوركينا فاسو كذلك تقلبات سياسية حادة خلال السنوات الأخيرة، قبل أن يستقر الأمر إلى حد الساعة على الأقل للنقيب الشاب إبراهيم تراوري، الذي يُلقَب هناك بتوماس سانكارا الجديد؛ لما يحمل من قوة في الخطاب، وكاريزما ظاهرة، وحضور قوي. بدأ الشاب مسيرة التحرر الثاني- كما يطلقون عليه- لبوركينا فاسو، حيث طُردت القوات الفرنسية من البلاد، وشهد التعاون مع موسكو قفزة نوعية، إذ شارك الرئيس إبراهيم تراوري في القمة الإفريقية- الروسية الأخيرة، وعقد على هامشها لقاء ثنائيًّا جمع بينه وبين فلاديمير بوتين، واتفق الطرفان على تعميق هذه الشراكة، على المستوى الأمني والطاقة، حيث تعهدت روسيا ببناء محطة نووية في بوركينا فاسو؛ لتغطية النقص الحاد في الكهرباء الذي تعانيه البلاد .

النيجر.. الضلع الثالث في المعادلة الجديدة

قاد رجل النيجر القوي الجنرال عبد الرحمن تشياني انقلابًا عسكريًّا أطاح بالرئيس السابق محمد بازوم، وتبنى تشياني بعد ذلك خطابًا وطنيًّا تحرريًّا إفريقيًّا، ووطد علاقاتها مع الحكام الجدد في كل من مالي، وبوركينا فاسو، ووقع القادة الثلاثة على إنشاء تحالف عسكري جديد يجمع الدول الثلاث لمحاربة الإرهاب، وزودت موسكو حكام نيامي الجدد بمستشارين عسكريين، وعتاد عسكري، وهو ما قالت موسكو إنه سيعزز أمن أراضي النيجر وسلامتها.

تشاد.. ديبي الابن على خطى ديبي الوالد

اعتبرت تشاد على مدار السنوات معقلًا مهمًّا من معاقل النفوذ الغربي، خاصةً الفرنسي، حيث تمتلك فرنسا قواعد عسكرية فيها، ولها نفوذ تاريخي على النخبة الحاكمة هناك. ومع تولي محمد إدريس ديبي الابن مقاليد الحكم في البلاد- بعد مقتل والده في ظروف غامضة- زار ديبي روسيا مرتين، كانت آخرهما في يناير (كانون الثاني) الماضي، وزادت روسيا المنح التعليمية المقدمة للطلاب التشاديين للدراسة في روسيا، لكن مع ذلك، تبدو إنجمينا أكثر حرصًا على استمرار النفوذ الفرنسي، وخاصة في ظل حالة عدم اليقين التي تسود المستقبل السياسي داخل الدولة، مع توجهها إلى الانتخابات الرئاسية الشهر المقبل، التي سيشارك فيها الرئيس الحالي، لكن إلى الآن يبدو أن حكم ديبي الابن يعاني، ومعرض لهزات قد تأتي من داخل المؤسسة العسكرية.

الخاتمة

تبدو روسيا الآن أمام فرصة تاريخية، وإن جاءت في ظروف لا تحبها موسكو وهي تخوض معركة ضارية مع الغرب بمفهومه الشامل في أوكرانيا، وفي جبهات مختلفة، لكن يبدو الكرملين مصرًّا على المضي قدمًا في توسيع دائرة النفوذ والمصالح مع القادة الأفارقة الجدد، مستفيدا من الترحاب الشعبي، وإرث موثوق من العلاقات، شهد دعم الاتحاد السوفيتي لحركات التحرر الإفريقية ضد المستعمرين الغربيين، وكذلك أجيال من الأفارقة تكوّنت داخل الدولة الروسية، واستفادت من خبراتهم دولهم بعد عودتهم .

لكن مع ذلك تبرز تحديات قد تعوق هذا التعاون :

أولًا: حالة عدم اليقين في الأنظمة الحاكمة الجديدة، حيث إنهم شبان يمتلكون الإرادة للتغيير، لكن يواجهون في المقابل دولة عميقة كُوّنت غربيًّا، وما زالت مؤثرة وقادرة على قلب الموازين .

ثانيًا: انشغال موسكو بالأزمة الأوكرانية، والتحديات الجيوسياسية الضاغطة عليها مع اقتراب حلف الناتو من حدودها بعد ضم فنلندا، وكل هذا يشكل ضغطًا إضافيًّا على صانع القرار الروسي، حيث يبدو مضطرًا إلى تقديم أولويات الأمن القومي على ملفات أخرى، منها الحضور في القارة الإفريقية.

أخيرًا، تحتاج روسيا إلى الاستفادة من التجربة الغربية، ولا سيما الفرنسية، في الساحل الإفريقي، حيث انتهي بها المطاف مطرودة تجر ذيول الهزيمة؛ ولذلك تبدو معادلة رابح- رابح كفيلة بتحقيق ذلك على المستوى الاقتصادي والتنويع، أو المزج بين القوة الصلبة والقوة الناعمة على مستوى التعاون العسكري والأمني، فالحضور الأمني وحده غير كافٍ، وقد لا يسبب نتائج عكسية؛ بل يحتاج إلى قوة موازية له، من مثقفين، ومفكرين، وأطباء، ومهندسين قادرين على تحقيق التقدم والتطوير داخل دول الساحل الإفريقي، وهنا لروسيا قوتها الناعمة متمثلة في أجيال من الكوادر الإفريقية التي كُوّنت داخل روسيا، وكذلك زيادة العلاقات الشعبوية بين الجميع، وتسيير البعثات الطبية والمساعدات الإنسانية، وكلها مجالات تجعل موسكو قادرة على الاضطلاع بدور محوري فيها، بما يصب في مصلحة كل الأطراف، ويتيح التقدم والازدهار لدول الساحل الإفريقي.

ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع