مقالات المركز

التقارب التركي- الصيني وانعكاساته على المشهد في المنطقة


  • 19 يونيو 2024

شارك الموضوع

شكلت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى الصين، 3-5 يونيو (حزيران) 2024، نقطة تحول مهمة في مسار العلاقات التركية الصينية، في ظل الرغبة المشتركة في توثيق العلاقات بين البلدين على الرغم من الخلافات.

وتعد زيارة فيدان إلى الصين هي الأولى من نوعها منذ أن زار سلفه مولود تشاووش أوغلو القوة الآسيوية في عام 2022، وكانت رحلته إلى شينجيانغ هي الأولى أيضًا منذ زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هناك عام 2012، حين كان رئيسًا للوزراء في ذلك الوقت.

وتعد الصين ثالث أكبر شريك تجاري لتركيا، حيث تجاوز حجم التجارة بين البلدين 47 مليار دولار في العام الماضي، وبلغت الصادرات التركية إلى القوة الآسيوية 3 مليارات دولار.

وقال وزير الخارجية التركي، خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره الصيني، إن الإجراءات التي تهدف إلى تخفيف الخلل في التوازن كانت إحدى أهم القضايا التي نوقشت في اجتماع فيدان ووانغ.

وتسعى أنقرة إلى مزيد من الاستثمارات الصينية المباشرة في تركيا، وكذلك رفع القيود المفروضة على الصادرات الزراعية التركية إلى الصين.

كما تأتي زيارة فيدان بعد أسبوع من زيارة وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار للصين، وفي حديثه بعد الزيارة، قال بيرقدار إن البلدين يقتربان من التوصل إلى اتفاق بشأن محطة نووية جديدة. وبالإضافة إلى محطة أكويو للطاقة النووية التي بنتها روسيا في جنوب شرق تركيا، تجري أنقرة محادثات مع روسيا والصين بشأن محطتي الطاقة النووية الثانية والثالثة في البلاد.

ومن المؤكد أن التقارب التركي الصيني له انعكاسات (اقتصادية وسياسية وأمنية) على دول المنطقة؛ مما يستدعي مراقبة مستمرة من هذه الدول لفهم كيفية التكيف مع هذه التغيرات، والاستفادة منها على نحو إيجابي.

ولطالما شهدت العلاقات الدبلوماسية التركية- الصينية التي تأسست عام 1934، موجات من الصعود والهبوط، فبقيت جامدة ومتشنجة دون أن يبذل أي من الطرفين جهدًا لحلحلة الوضع وتحسينه. وحتى بعد أن اعترفت تركيا رسميًّا بقيام جمهورية الصين الشعبية عام 1971، بقي هذا التشنج بسبب عدة عوامل، منها بعد المسافات والثقافات، لكن أهمها على الإطلاق كانت أزمة “الإيغور” التي كان “عقدة العلاقات”، خاصةً في تسعينيات القرن الماضي، إذ من المعروف أن جميع الحكومات التركية كانت من أشد المؤيدين للنزعة الانفصالية للإيغور، وهو شعب تركي عرقيًّا يتحدث باللغة التركية، ويعيش في إقليم تركستان الشرقية الخاضع لسيطرة “بكين” منذ عام 1949، ويُعرف باسم “شينجيانغ”، أي (الحدود الجديدة). ونذكر أنه في عام 1952، اتخذ رئيس وزراء تركيا آنذاك عدنان مندريس موقفًا صارمًا من الصين بسبب ممارستها ضد الإيغور، وفتح الباب أمام بني جلدته للجوء إلى تركيا عام 1952. وبالمثل أيضًا، بعد تسلّم الرئيس رجب طيب أردوغان رئاسة وزراء البلاد عام 2003، كان من أشد المنتقدين للصين، وطريقه معاملتها للإيغور.

وبالمثل أيضًا، لم تلتفت الصين كثيرًا- لعقود طويلة- إلى أمر تحسين علاقاتها مع تركيا، وبقيت هذه العلاقات تسير بوتيرة متواضعة دون المستوى المتوقع فيها كثير من التحفظ على السياسة التركية بسبب الإيغور، وكذلك تستشعر أيضًا الصين أن الرغبة التركية في إقامة علاقات سياسية قوية معها ليست هدفًا في ذاته؛ بل ورقة ضغط تستدعيها “أنقرة” لمساومة حلفائها كلما ساءت علاقاتها مع الغرب، سواء الولايات المتحدة، أو أوروبا، لانتزاع مزيد من الحوافز منهم..

لكن يمكن القول إنه مع بدء الغزو الصيني الاقتصادي للعالم في السبعينيات، وانفتاح “بكين” على الشرق الأوسط لتصبح في السنوات العشر الأخيرة أكبر دولة مصدرة للعالم، وثاني أكبر مستورد له، لفتت أنظار تركيا التي كانت أيضًا لديها رغبة كبيرة في التوسع والنمو الاقتصادي العالمي.

 ومع تكرار المحاولة لبناء علاقات جيدة بين البلدين، بدأت هذه المحاولات نسبيًّا تأتي أُكلها في العقد الأخير فقط عبر “المدخل الاقتصادي”، فبدا جليًّا لدى كلا الطرفين الرغبة في الاستفادة من الحوافز الاقتصادية من خلال زيارات متبادلة وحوارات بناءة، أسهمت في ازدهار التجارة، ومعها تدفق الاستثمارات الصينية إلى تركيا، لا سيما بعد توقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين الجانبين عام 2010.

أما التقارب الاقتصادي النوعي، فقد بدأ خصوصًا مع الأزمة الاقتصادية التي ضربت تركيا عام 2018، وأدت إلى انهيار الليرة التركية، حيث قدم البنك الصناعي والتجاري الصيني المملوك للدولة قرضًا لتركيا بلغ 3.6 مليار دولار، كما فتحت الصين خطًا لمقايضة العملة مع تركيا، إلى جانب ضخّها استثمارات بقيمة ملياري دولار في بعض القطاعات الإستراتيجية التركية ذات الأهمية لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية.

أما السياسة، فظلت مختلفًا عليها بين البلدين في مواقع حيوية كثيرة في العالم، حيث يتبنى كلا البلدين مواقف متناقضة تمامًا، لا سيما في دول مثل مصر، وسوريا، والعراق، وقبرص، وكوسوفو، والبوسنة والهرسك، وأخيرًا النزاع الأرميني- الأذربيجاني.

وعليه يمكن القول إنه على الرغم من التوصيفات التي أعطتها وسائل الإعلام التركية لزيارة فيدان للصين، فإنها أشارت إلى أن المحادثات سلكت منحى تحول جيوسياسي، لكن يبدو واضحًا أن العلاقات التركية- الصينية تتجلى أكثر في النواحي الاقتصادية التي تعمل محفزًا للعلاقات، في حين لم يتمكن كلا البلدين حتى الآن من إيجاد أرضية ذات رؤى مشتركة تنهي التصدعات السياسية تمامًا بسبب المختلف عليه من الأزمات الجذرية التي تبدو أبعد من الاتفاق عليها في الوقت الراهن، لا سيما ملف “الإيغور”.

مع ذلك، لا تزال هناك كثير من الفرص لتوسيع آفاق هذه العلاقات من خلال العمل على تجاوز الخلافات السياسية، وتوسيع رقعة التفاهم بين الجانبين. بعبارة أخرى، يبدو أن تعزيز العلاقات بين “أنقرة” و”بكين” يتطلب إرادة سياسية من الجانبين عنوانها العريض “تعظيم التفاهمات، وتجاوز الخلافات.

وأخيرًا.. تسعى تركيا من خلال زيارة فيدان الأخيرة إلى الصين إلى إقامة علاقات متوازنة بين الغرب والشرق، في ضوء اتساع آفاق التعاون مع الصين تحديدًا؛  نظرًا إلى التطور السريع للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الجانبين، فضلًا عن تنوع الفرص الجاذبة لاستمرار تقدم مسارات الشراكة بينهما، لكن التقارب الحقيقي بين البلدين تبدو قواعده مهزوزة، ولا يرقى إلى درجة أن يتحمل وصف العلاقات التركية الصينية بـ”الإستراتيجية والحليفة”، خصوصًا إذا أخذنا في الحسبان أيضًا أن فكرة تغيير تركيا محاورها السياسية مع الولايات المتحدة- العدو اللدود للصين- في سبيل إقامة علاقات إيجابية مع “بكين”، لا تبدو أمرًا موضوعيًّا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع