عندما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، في برنامجه الانتخابي لعام 2020، أنه سوف يبذل قصارى جهده لتجديد “التحالفات” التي ترتبط بها واشنطن، اعتقد الكثيرون آنذاك أنها رؤية أو مناورة انتخابية ضد مواقف غريمه ومنافسه في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 الرئيس السابق دونالد ترمب، بل إن أفضل المتفائلين ظن أن الرئيس بايدن يقصد استعادة العلاقة مع الأوروبيين، التي تدهورت كثيرًا في عهد سلفه دونالد ترمب.
لكن بعد مرور ما يزيد على 3 سنوات من حكم الرئيس الديمقراطي في البيت الأبيض، تأكد للجميع أن الولايات المتحدة وضعت إستراتيجية لمواجهة أعدائها ومنافسيها على مستوى العالم، تعتمد على توسيع التحالفات العسكرية والسياسية، سواء أكانت “تحالفات ثنائية”، أم “متعددة الأطراف”.
وتعتمد هذه الإستراتيجية على محورين رئيسين؛ الأول هو “مبدأ القيادة من الخلف”، بمعنى أن الولايات المتحدة “سوف تدفع حلفاءها إلى التصدي بدلًا منها لمنافسيها وأعدائها، والمحور الثاني هو العودة من جديد إلى “خيار كيسنجر”، الذي طرحه وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في نهاية ستينيات القرن الماضي، والذي يقوم على “عدم المواجهة المباشرة” بين الولايات المتحدة والقوى العالمية المنافسة لها في ذلك الوقت، وهي الاتحاد السوفيتي السابق والصين، وأن إضعاف منافسي الولايات المتحدة يكون فقط عبر العمل على خلق صراعات و”خلافات إقليمية”.
ويشير تحليل السلوك الأمريكي في البيئة الدولية، عقب الحرب العالمية الثانية، أن واشنطن نجحت من خلال هذه الإستراتيجية في بث الخلافات والصراعات بين الدول الآسيوية، وكان هدف واشنطن من هذه الإستراتيجية هو السيطرة على الحلفاء والأعداء معًا؛ لأن “اعتمادية الحلفاء” على واشنطن في الدعم السياسي والعسكري سوف تجعلهم رهينة لقرارات البيت الأبيض ومصالحه، وكذلك فإن انخراط منافسيها في الصراعات الإقليمية سوف يقود في النهاية إلى إضعافهم، كما جرى في تأجيج الصراع بين الصين والاتحاد السوفيتي السابق على الحدود بداية من مارس (آذار) عام 1969.
ومن ينظر اليوم إلى “دفتر عمليات” البيت الأبيض واجتماعاته خلال الشهور القليلة الماضية، سيكون على يقين بأن واشنطن وصلت بسياسة “بناء التحالفات وتوسيعها” إلى ذروتها؛ عندما استضاف الرئيس جو بايدن في 11 أبريل (نيسان) الجاري القمة الثلاثية الأمريكية اليابانية الفلبينية، أو من خلال “تحديث الاتفاقيات الدفاعية” مع اليابان في القمة اليابانية الأمريكية التي عقدت في البيت الأبيض في 10 أبريل (نيسان) هذا العام، كما تتحرك الولايات المتحدة على أصعدة أخرى مثل توسيع وتعزيز تحالفات “أوكوس”، و”كواد”، والعيون الخمس، بالإضافة إلى تشكيل سلسلة من “التحالفات الثلاثية” الجديدة التي تكون الولايات المتحدة طرفها الأول مع طرفين آخرين، كما جرى في القمة الأمريكية اليابانية الفلبينية، والقمة الأمريكية اليابانية مع كوريا الجنوبية، فما أوراق واشنطن لبناء هذه التحالفات التي تستهدف- على نحو مباشر- الرباعي الروسي الصيني الإيراني الكوري الشمالي؟ وأين وصلت الولايات المتحدة في بناء هذه التحالفات الجديدة؟ وما الأوراق التي لدى الصين وروسيا لإجهاض تلك التحالفات” الجديدة والخطيرة على الأمن القومي لروسيا والصين؟
تقوم الخطط الأمريكية في مقارعة الأعداء والمنافسين على “المواجهات غير المباشرة”، وخير مثال على هذا النهج في الوقت الحاضر هو الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تسعى واشنطن إلى استنزاف روسيا دون أن تدخل معها في “حرب مباشرة”. ولتحقيق هذه الإستراتيجية ضد روسيا والصين وكوريا الشمالية- على نحو خاص- بدأ الرئيس جو بايدن ببناء سلسلة من الخطوات، الهدف منها تعزيز “التحالفات الأمريكية القائمة”، أو تأسيس “تحالفات جديدة”، ومن أبرز تلك التحالفات ما يلي:
أولًا: التحالف الثلاثي مع كوريا الجنوبية واليابان
قبل فوز الرئيس جو بايدن بالرئاسة، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم الحرب الكورية بين عامي 1950 و1953، كانت العلاقات الأمريكية مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية تقوم على مبدأ العلاقات الثنائية، وكان التعاون الثلاثي في حدوده الدنيا؛ نظرًا إلى الخلافات التاريخية بين كوريا الجنوبية واليابان، وميراث الاحتلال الياباني لكوريا في الفترة من عام 1910 حتى عام 1945، لكن إدارة الرئيس جو بايدن سعت إلى تحويل العلاقات الثنائية مع اليابان وكوريا الجنوبية إلى “تحالف ثلاثي” عندما استضاف الرئيس جو بايدن- لأول مرة- القمة الثلاثية الأمريكية اليابانية الكورية الجنوبية في أغسطس (آب) الماضي، في منتجع كامب ديفيد بولاية ميرلاند، وفي البيان الصادر عن القمة كانت كل الكلمات تؤكد أن هناك “تحالفًا ثلاثيًّا” جديدًا سوف يعمل ضد كل من الصين وروسيا وكوريا الشمالية في شرق آسيا، ليس فقط لتعهد الأطراف الثلاثة بالعمل معًا للدفاع عن أنفسهم؛ بل للقيام بتدريبات عسكرية مشتركة، ونشر منظومات صواريخ، وشراء أسلحة غير مسبوقة، وهو ما دفع صحيفة غلوبال تايمز الصينية إلى القول إن “الولايات المتحدة تريد إنشاء تحالف آسيوي على غرار منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في المنطقة”.
وبعد أقل من 6 أشهر، وفي أبريل (نيسان) الجاري، استضاف الرئيس الأمريكي جو بايدن قمة يابانية جديدة لدفع اليابان إلى تخصيص مزيد من الأموال للشؤون العسكرية، وبناء مزيد من القواعد العسكرية الأمريكية في اليابان، مثل القاعدة العسكرية العملاقة للتدريب في محافظة “كاجوشيما”، جنوب غرب البلاد، وشراء طوكيو مزيدًا من العتاد الأمريكي، مثل صواريخ توماهوك، والتصنيع المشترك للطائرات العسكرية، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي إلى وصف علاقة بلاده باليابان في هذه المرحلة بأنها تشبه في قوتها وعمقها “أشجار الكرز” التي أهدتها اليابان في بداية القرن الماضي إلى الولايات المتحدة، وخلال زيارة هذا الشهر لواشنطن، أهدى- من جديد- رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا 250 شجرة كرز إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ دليلًا على تجديد التحالف مع البيت الأبيض وتعميقه.
وينظر الجميع إلى هذا التحالف الجديد بأنه لصالح الولايات المتحدة بنسبة 100 %، ليس فقط لأنه يدفع اليابان إلى التخلي عن سياستها السابقة، وشراء مزيد من السلاح الأمريكي؛ بل لأنه يدفع اليابان إلى الانخراط أكثر في خلافات الولايات المتحدة في آسيا عبر ما سُمي “ترقية” العلاقات العسكرية بين واشنطن وطوكيو، التي قادت- لأول مرة- إلى “إعادة هيكلة قيادة القوات الأمريكية” في اليابان بما يسهل حركة القوات الأمريكية في اليابان وشرق آسيا، لكن الأخطر من وجهة النظر الصينية هو تعهد رئيس الوزراء الياباني أمام الكونغرس بانخراط اليابان إلى جانب الولايات المتحدة في أي صراع قد يندلع في بحر الصين الشرقي، عندما قال: “إن اليابان جُرِّدَت من حقها في بناء قوة عسكرية بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها لا تزال مصممة على بذل كل الجهد لتقاسم المسؤولية مع حليفتها الولايات المتحدة”.
ثانيًا: التحالف الثلاثي مع الفلبين واليابان
وتجسد ذلك في القمة الثلاثية الأولى بين قادة الدول الثلاث في 11 أبريل (نيسان) الجاري، التي جمعت الرئيس الأمريكي جو بايدن مع رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، والرئيس الفلبيني فرديناد ماركوس جونيور، وكان عنوانها الأول هو تعزيز التحالف العسكري، ومواجهة نفوذ الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكن أخطر ما قاله الرئيس جو بايدن في هذه القمة هو أن “أي اعتداء على سفينة أو طائرة فلبينية سوف يعد اعتداء على الولايات المتحدة واليابان والدول الثلاث”، وظلت واشنطن تعمل على هذا التحالف الثلاثي منذ وصول الرئيس الفلبيني الحالي فرديناند ماركوس جونيور إلى الحكم في 30 يونيو (حزيران) 2022، وبدأت واشنطن- منذ ذلك الوقت- العمل على تعزيز وجودها العسكري في الأراضي الفلبينية، الذي بدأ منذ عام 1947، وتنامى حتى توقيع اتفاقية “الدفاع المشترك” في 30 أغسطس (آب) 1951، وكانت الخطوة الأكبر في عهد الرئيس جو بايدن هي توقيع واشنطن مع مانيلا في 2 فبراير (شباط) 2023 على اتفاق لتوسيع الوجود العسكري الأمريكي في الفلبين إلى 9 قواعد عسكرية.
رابعًا: تحالفات ثنائية للحلفاء
بهدف تخفيف الفاتورة المالية، ودفع الآخرين إلى مشاركتها الأعباء المالية لبناء القواعد العسكرية وشراء الأسلحة، عملت الولايات المتحدة- منذ فترة طويلة- على تشكيل تحالف عريض لا يقوم فقط على اتفاقيات ثنائية بين واشنطن وتلك الدول؛ بل العمل على توقيع “اتفاقيات ثنائية بين حلفاء الولايات المتحدة نفسها”، على سبيل المثال، التوقيع على اتفاقية لتعزيز التعاون الدفاعي بين أستراليا وكوريا الجنوبية في 30 مايو (أيار) 2023، وتوقيع أستراليا واليابان اتفاقية أمنية وصفت بالتاريخية في مدينة بيرث غرب أستراليا في 22 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022، كما وقعت أستراليا “اتفاقية دفاع مشترك” مع بريطانيا، أطلق عليها “اتفاقية مركز القوات”، في 21 مارس (آذار) الماضي، وهي أول اتفاقية تسمح بحرية عمل قوات البلدين في أراضي الدولة الأخرى، وتعد استكمالًا لعضوية بريطانيا وأستراليا في تحالف “أوكوس”.
خامسًا: توسيع التحالفات العسكرية القائمة
بعد انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، تعمل واشنطن على توسيع “التحالفات القائمة”، على غرار توسّع “الناتو”، الذي بدأ بـ12 دولة، وأصبح فيه الآن 32 دولة، وتعمل واشنطن على توسيع تحالف “أوكوس” الذي يضم في الوقت الحالي بالإضافة إلى الولايات المتحدة كلًا من بريطانيا واستراليا، وهناك من يرى في فيتنام والفلبين واليابان أطرافًا مرشحة لهذا التحالف، كما يعمل البيت الأبيض على توسيع مظلة تحالف “كواد الرباعي”، الذي يضم مع الولايات المتحدة كلًا من الهند واليابان وأستراليا، ولدى واشنطن توجه نحو تعزيز التعاون المعلوماتي والاستخباراتي لتحالف “العيون الخمس”، الذي يضم كندا، وبريطانيا، ونيوزيلندا، والولايات المتحدة، وأستراليا.
سادسًا: تحالفات الاقتصاد العسكري
تتزامن التحركات الأمنية لبناء تحالفات عسكرية، وتوسيع التحالفات القائمة، مع صياغة الولايات المتحدة “تحالفات الاقتصاد العسكري”، والهدف من هذه الاتفاقيات هو زيادة مساهمات الدولة الأخرى في تحمل عبء الخطط العسكرية الأمريكية؛ لهذا أدخلت الولايات المتحدة اليابان في تحالف الإنتاج العسكري المشترك، ودُمجت اليابان مع أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة في مجال الإنتاج التكنولوجي العسكري المشترك، خاصة مجالات الذكاء الاصطناعي، وأنظمة القيادة الذاتية.
كل هذه التحالفات والعسكرة الأمريكية إنما تؤكد مضي واشنطن نحو توريط حلفائها، والاختباء وراء صراعات إقليمية تكون بمنزلة ستار وحاجز لحماية واشنطن من الانزلاق إلى حرب مباشرة مع منافسيها على مستوى العالم.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.