طورت إيران برنامجًا صاروخيًّا يُعد اليوم الأكبر والأكثر تنوعًا في المنطقة؛ مما يثير قلقًا دوليًّا وإقليميًّا، خاصة لدى إسرائيل التي ترى فيه تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. بدأ البرنامج الصاروخي الإيراني استجابةً لتحديات الأمن القومي خلال الحرب العراقية- الإيرانية، لكنه تطور ليصبح أداة رئيسة للردع والنفوذ الإقليمي. وقد نشأ البرنامج الصاروخي الإيراني في سياق الحرب العراقية- الإيرانية (1980- 1988)، عندما واجهت إيران هجمات صاروخية عراقية مدمرة على مدنها. في تلك الفترة، كانت إيران، التي انقطعت عنها الإمدادات الغربية بعد الثورة الإسلامية عام 1979، بحاجة ماسة إلى أسلحة للردع. بدأت طهران باستيراد صواريخ “سكود- بي” السوفيتية من ليبيا وسوريا، ثم من كوريا الشمالية، التي أصبحت شريكًا رئيسًا في نقل التكنولوجيا الصاروخية.
بحلول التسعينيات، ركزت إيران على الإنتاج المحلي، مستفيدة من التعاون مع كوريا الشمالية لتطوير صواريخ مثل “شهاب- 1″، و”شهاب- 2″، وهي نسخ معدلة من طرازات “سكود”. هذه الخطوة، كانت بداية تحول إيران نحو الاكتفاء الذاتي في إنتاج الصواريخ، مما سمح لها بتوسيع نطاق برنامجها. بحلول أوائل الألفية، أصبح الحرس الثوري الإيراني المشرف الرئيس على البرنامج، مع التركيز على تحسين المدى والدقة.
تطور البرنامج الصاروخي الإيراني تطورًا ملحوظًا خلال العقدين الماضيين، حيث انتقل من الاعتماد على صواريخ بدائية قصيرة المدى إلى ترسانة متنوعة تشمل صواريخ باليستية متوسطة وبعيدة المدى. صاروخ “شهاب- 3″، الذي دخل الخدمة عام 2003، كان نقطة تحول بمداه البالغ 1300 كيلومتر، مما جعله قادرًا على استهداف إسرائيل. تلا ذلك صواريخ أكثر تطورًا، مثل “عماد” (2015) بمدى 1500 كيلومتر، ونظام توجيه متقدم، و”فتاح- 1″ (2023)، الذي وصفته إيران بأنه “صاروخ فرط صوتي”، رغم تشكيك خبراء غربيين في هذا التصنيف.
تمتلك إيران أكثر من 3000 صاروخ باليستي، منها صواريخ قصيرة المدى، مثل “قيام- 1” (700- 800 كيلومتر) ومتوسطة المدى، مثل “خرمشهر” (2000 كيلومتر). إضافة إلى ذلك، طورت إيران صواريخ تعمل بالوقود الصلب، مثل “سيجيل- 2″، التي تتيح إطلاقًا أسرع وأقل تعرضًا للكشف مقارنة بالصواريخ السائلة. هذا التطور جعل إيران قوة ردع إقليمية قادرة على تهديد أهداف عسكرية ومدنية في المنطقة.
خطورة البرنامج الصاروخي الإيراني على الشرق الأوسط تكمن في قدرته على تغيير ميزان القوى وتصعيد الصراعات؛ أولًا: الصواريخ الإيرانية، بمداها الذي يغطي إسرائيل، ودول الخليج، وقواعد عسكرية أمريكية، تشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي. هجمات جمات الحوثي في اليمن عام 2019 على منشآت نفطية سعودية في أرامكو، باستخدام صواريخ “كروز”، وطائرات مسيرة “إيرانية” الصُنع، أظهرت قدرتها على تنفيذ ضربات دقيقة. ثانيًا: إيران تستخدم برنامجها الصاروخي أداةً لدعم وكلائها، مثل حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، والميليشيات الشيعية في العراق، حيث زودتهم بصواريخ وتكنولوجيا من إنتاجها المحلي. عام 2023 كان حزب الله يمتلك أكثر من (150,000) صاروخ، معظمها من إمدادات إيران، مما يشكل تهديدًا كبيرًا للجبهة الشمالية الإسرائيلية. ثالثًا: الجمع بين البرنامج الصاروخي والبرنامج النووي الإيراني يثير مخاوف من أن الصواريخ قد تُستخدم يومًا لحمل رؤوس نووية، رغم نفي إيران لهذا الهدف. هذا الاحتمال، قد يؤدي إلى سباق تسلح نووي في المنطقة، مع سعي دول، مثل السعودية وتركيا، إلى تطوير قدرات مماثلة.
إسرائيل ترى في إيران التهديد الأكبر لأمنها، فطورت إستراتيجيات متعددة لمواجهة البرنامج الصاروخي الإيراني؛ أولًا: تعتمد إسرائيل على نظام دفاع جوي متعدد الطبقات يشمل القبة الحديدية للصواريخ القصيرة المدى، وديفيد سلينغ للصواريخ المتوسطة المدى، ونظامي أرو-2 وأرو-3 لاعتراض الصواريخ الباليستية البعيدة المدى. خلال الهجوم الإيراني في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، الذي شمل إطلاق نحو 180 صاروخًا باليستيًّا، نجحت إسرائيل -بدعم من الولايات المتحدة- في اعتراض معظم الصواريخ، مما قلل الخسائر إلى الحد الأدنى. ثانيًا: تتبنى إسرائيل إستراتيجية هجومية تشمل ضربات استباقية ضد أهداف إيرانية. في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، نفذت إسرائيل غارات جوية على مواقع عسكرية إيرانية، استهدفت بطاريات دفاع جوي ومنشآت تصنيع صواريخ، وفقًا لتصريحات الجيش الإسرائيلي. ثالثًا: تستخدم إسرائيل عمليات استخباراتية واغتيالات لتعطيل البرنامج الصاروخي، مثل استهداف قادة الحرس الثوري، وقادة حزب الله، كما حدث مع اغتيال حسن نصر الله في سبتمبر (أيلول) 2024. وأخيرًا، تعمل إسرائيل دبلوماسيًّا لتعزيز العقوبات الدولية على إيران، داعية إلى تضمين البرنامج الصاروخي في أي مفاوضات نووية مستقبلية.
خطورة البرنامج الصاروخي الإيراني تتجاوز التهديد العسكري لتشمل التأثيرات الجيوسياسية. الهجمات الإيرانية المباشرة على إسرائيل، مثل تلك في أبريل (نيسان) وأكتوبر (تشرين الأول) 2024 ويونيو (حزيران) 2025، زادت مخاطر الحرب الإقليمية، كما أن دعم إيران وكلاءها يوسع نطاق التهديد، حيث يمكن لحزب الله أو الحوثيين تنفيذ هجمات بالوكالة، مما يعقد إستراتيجيات الرد الإسرائيلية. هذا الوضع دفع دول الخليج، مثل السعودية والإمارات، إلى تعزيز دفاعاتها الصاروخية بالتعاون مع الولايات المتحدة.
في مواجهة هذا التهديد، تواجه إسرائيل تحديات معقدة، فنظامها الدفاعي -رغم فعاليته- مكلف جدًّا، حيث تكلف صواريخ أرو-3 ملايين الدولارات لكل وحدة، مما يثير تساؤلات عن استدامته في مواجهة هجمات مكثفة. كما أن الضربات الاستباقية الإسرائيلية، رغم نجاحها في إضعاف إيران ووكلائها، تزيد مخاطر التصعيد. على سبيل المثال، في فجر 13 يونيو (حزيران) 2025، نفذت إسرائيل هجومًا جويًّا غير مسبوق على إيران، استهدف منشآت نووية وعسكرية رئيسة، منها موقع نطنز لتخصيب اليورانيوم، ومنشآت عسكرية في طهران وأصفهان. هذا الهجوم، الذي أطلق عليه الجيش الإسرائيلي اسم “عملية الأسد الصاعد”، شمل أكثر من 200 غارة جوية، استخدمت فيها طائرات مقاتلة وأسلحة دقيقة هُرِّبَت مسبقًا إلى إيران.
أسفر الهجوم عن مقتل قادة عسكريين بارزين في الحرس الثوري، منهم القائد حسين سلامي، ورئيس الأركان محمد حسين باقري، إضافة إلى علماء نوويين مثل فريدون عباسي. كما تضررت منشآت نووية رئيسة، مما أثار مخاوف من تسرب إشعاعي. ردت إيران بإطلاق أكثر من 100 صاروخ باليستي وطائرة مسيرة على إسرائيل، معظمها أُسقطت بمساعدة الولايات المتحدة والأردن، لكن بعض الصواريخ أصابت تل أبيب ورامات غان، مما تسبب في وفيات وإصابات. هذا التصعيد، الذي جاء بعد سلسلة من المواجهات بين البلدين منذ أبريل (نيسان) 2024، يمثل تحولًا من حرب الظل إلى مواجهة مباشرة، مما يعيد تشكيل ديناميكيات الشرق الأوسط.
دلالات هذا الهجوم تتجاوز الصراع الثنائي بين إسرائيل وإيران، إذ يعكس إستراتيجية إسرائيلية تهدف إلى تقويض قدرات إيران النووية والعسكرية على نحو حاسم. الهجوم جاء بعد تقارير استخباراتية أمريكية وإسرائيلية تشير إلى تقدم إيران نحو تصنيع ما يصل إلى 10 أسلحة نووية، وهو ما اعتبرته إسرائيل تهديدًا وجوديًّا. وقدم قرار مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 11 يونيو (حزيران) 2025، الذي أعلن عدم امتثال إيران لالتزاماتها النووية، غطاءً دبلوماسيًّا للعملية.
الهجوم يعكس أيضًا رغبة إسرائيل في استغلال ضعف “محور المقاومة” الإيراني، بعد تدمير قدرات حزب الله وحماس في عام 2024، وانهيار نظام الأسد في سوريا في ديسمبر (كانون الأول) 2024. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في خطاب متلفز، وصف العملية بأنها “ضرورة لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي”، مشيرًا إلى أنها ستستمر “حتى إزالة التهديد”، لكن الهجوم قد يكون سعى إلى تغيير النظام في إيران، وهو هدف طموح محفوف بالمخاطر.
تبعات الهجوم على الشرق الأوسط متعددة وخطيرة؛ أولًا: أدى إلى تصعيد غير مسبوق يهدد بحرب إقليمية شاملة. رد إيران، رغم محدوديته، أظهر استعدادها للمواجهة المباشرة، مع تهديدات من المرشد الأعلى علي خامنئي بـ”عقاب شديد”. هذا التصعيد قد يجر وكلاء إيران، مثل الحوثيين في اليمن، والميليشيات الشيعية في العراق، إلى استهداف مصالح إسرائيلية وأمريكية، مما يوسع نطاق الصراع. ثانيًا: أثر الهجوم على أسواق الطاقة، حيث قفزت أسعار النفط بنسبة (11%) في اليوم الأول بسبب مخاوف من استهداف منشآت نفطية في الخليج. ثالثًا: أدى الهجوم إلى تعليق المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة، التي كانت مقررة في 15 يونيو (حزيران) 2025 في مسقط، مما يزيد احتمال اندفاع إيران نحو تصنيع سلاح نووي كوسيلة ردع.
إعادة رسم الشرق الأوسط نتيجة هذا الهجوم ستعتمد على عدة عوامل. إذا نجحت إسرائيل في تأخير البرنامج النووي الإيراني على نحو كبير، فقد تعزز هيمنتها العسكرية في المنطقة، خاصة مع ضعف وكلاء إيران. لكن إذا أدى الهجوم إلى تصعيد طويل الأمد، فقد يؤدي إلى حرب استنزاف تضر بجميع الأطراف. انهيار “محور المقاومة” -كما حدث مع حزب الله وحماس وسوريا- يمنح إسرائيل والدول السنية فرصة لتعزيز التعاون، ربما من خلال توسيع اتفاقيات أبراهام لتشمل السعودية، لكن هذا يواجه عقبات، حيث إن القضية الفلسطينية، خاصة مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي لغزة والضفة الغربية، تظل عائقًا أمام التطبيع الكامل. كما أن إضعاف إيران قد يدفع دولًا، مثل تركيا وقطر، إلى ملء الفراغ الإقليمي، مما يعقد المشهد الجيوسياسي. أخيرًا، قد يؤدي الهجوم إلى إعادة إحياء الجماعات المتطرفة، حيث تستغل الفوضى لتجنيد مقاتلين جدد، كما حدث في العراق وسوريا سابقًا.
موقف دول الخليج من الهجوم كان حذرًا. لم تصدر دول الخليج، مثل السعودية والإمارات وقطر، بيانات رسمية تدين الهجوم أو تدعمه، مما يعكس رغبتها في الحياد. هذا الحياد ينبع من مخاوفها من استهداف إيران منشآتها النفطية، كما حدث في هجوم أرامكو 2019، ومن رغبتها في تجنب التورط في حرب إقليمية، ودعت هذه الدول إلى تهدئة التصعيد خوفًا من تأثيره في أسواق الطاقة، وأمنها الداخلي.
سياسات دول الخليج ستشهد تغيرات نتيجة الهجوم؛ أولًا: ستعزز هذه الدول دفاعاتها الصاروخية بالتعاون مع الولايات المتحدة، خاصة بعد نجاح أنظمة الدفاع الجوي في اعتراض الصواريخ الإيرانية. ثانيًا: قد تدفع السعودية نحو تسريع التطبيع مع إسرائيل، خاصة إذا أدى الهجوم إلى إضعاف إيران على نحو دائم، لكن هذا مشروط بحل جزئي للقضية الفلسطينية. ثالثًا: ستسعى دول الخليج إلى تنويع تحالفاتها، من خلال تعزيز العلاقات مع الصين وروسيا؛ لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة في ظل عدم اليقين بشأن سياسات إدارة ترمب. أخيرًا: ستزيد هذه الدول الاستثمارات في الأمن الداخلي لمواجهة أي اضطرابات قد تنجم عن تصعيد إيراني. هذه التغيرات تهدف إلى حماية مصالحها الاقتصادية والأمنية في منطقة مضطربة.
في الختام، يمثل البرنامج الصاروخي الإيراني تهديدًا إستراتيجيًّا للشرق الأوسط بسبب تطوره التقني، ومداه الواسع، ودوره في دعم شبكة وكلاء إيران. إسرائيل، التي تواجه هذا التهديد مباشرة، طورت دفاعات متقدمة وإستراتيجيات هجومية، لكنها تواجه تحديات تتعلق بالتكلفة، والتصعيد، والاعتماد على الحلفاء. التوازن بين الردع وتجنب حرب شاملة يظل هدفًا صعبًا، خاصة مع استمرار إيران في تحدي العقوبات الدولية وتطوير ترسانتها. وقد مثَّل الهجوم الإسرائيلي على إيران في يونيو (حزيران) 2025 نقطة تحول في الشرق الأوسط، حيث أعاد تعريف ميزان القوى، وفتح الباب أمام سيناريوهات متناقضة: إما تعزيز الهيمنة الإسرائيلية، وإما اندلاع حرب إقليمية مدمرة. وتكمن دلالاته في كسره حاجز حرب الظل، في حين تشمل تبعاته أخطارًا اقتصادية وأمنية ونووية. دول الخليج، رغم حيادها الظاهري، ستواجه ضغوطًا لإعادة صياغة سياساتها لمواجهة واقع جديد. المستقبل يعتمد على مدى قدرة الأطراف على احتواء التصعيد، لكن التاريخ يُخبرنا أن الشرق الأوسط نادرًا ما يختار الهدوء عندما تُفتح أبواب الحرب.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.