مقالات المركز

الانتخابات البريطانية.. أزمة حكم وليس إخفاق حكومة


  • 25 يونيو 2024

شارك الموضوع

هناك سؤال تطرحه النخبة السياسية في بريطانيا: هل الأزمة التي تمر بها المملكة المتحدة حاليًا هي أزمة “أزمة حكم”، أم “إخفاق حكومة”؟ بمعنى، هل الأزمات التي يعيشها الشعب البريطاني هي نتاج فشل وإخفاق 5 حكومات تزعمها حزب المحافظين منذ عام 2010، أم أن هناك سياقات أخرى تحاول الأحزاب المختلفة، سواء أكان حزب العمال، أم حزب المحافظين، أم حزب الأحرار الليبراليين، أو غيرها، عدم الحديث عنها، والتغطية عليها؟

فمن يراجع مسلسل الإخفاقات البريطانية خلال العقدين الماضيين يتأكد له أن هناك “أزمات عميقة” في البنية السياسية والاقتصادية والعسكرية في البلاد التي كانت ذات يوم “المحرك الأول” للتفاعلات السياسية الدولية، وأن مشكلات بريطانيا لن يحلها تشكيل حكومة عمالية بزعامة كير ستارمر بدلًا من الحكومة الحالية التي يقودها ريشي سوناك، الذي دعا إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة تقول كل استطلاعات الرأي إن حزب العمال سوف يكتسحها، ويمكنه أن يفوز بـ425 مقعدًا من إجمالي عدد المقاعد في البرلمان البريطاني التي تبلغ 650.

تفاصيل المشهد البريطاني تؤكد أن الأزمة لا تتوقف عند معدلات التضخم التي تضرب جيوب المواطنين البريطانيين، ولن يحلها تعيين آلاف الأطباء للتغلب على مشكلة “قوائم الانتظار” في المستشفيات، فأزمة الاقتصاد البريطاني عميقة جدًّا، قادت إلى التراجع من الاقتصاد الخامس عالميًّا إلى الاقتصاد السادس، تاركًا المركز الخامس للهند، كما أن الجيش البريطاني تراجع وتضاءل بحدة، وسيصبح عدد جنوده نحو 67 ألف فقط عام 2026، في حين لا يزيد عدد جنوده وضباطه الآن على 82 ألف جندي، وهو أقل عدد منذ أيام نابليون بونابرت، ويعد الحزب الوطني الإسكتلندي الذي يسعى إلى استقلال إسكتلندا، والديمقراطيون الليبراليون، والحزب الديمقراطي الوحدوي، الذي يقوم برنامجه الانتخابي على توثيق العلاقة بين بريطانيا وأيرلندا الشمالية، وحزب الخضر، هي أكبر 4 أحزاب في البرلمان بعد حزب المحافظين وحزب العمال، فما أبعاد الأزمة التي تمر بها بريطانيا؟ وهل يمكن للانتخابات البرلمانية أن تكون مخرجًا لكل هذه الأزمات؟ وما حسابات القوى والأحزاب السياسية المختلفة في الانتخابات التي ستُعقد في 4 يوليو (تموز) المقبل؟

5 شواهد

أولًا: مستنقع مشكلات

القراءة العميقة للأزمة في بريطانيا تؤكد أنها عصية على أي حكومة، ولا يمكن أن تنتهي بين ليلة وضحاها، ولعل خير شاهد على هذا هو أن “حزب العمال” الذي يتقدم على حزب المحافظين في نيّات الناخبين بنحو 20 نقطة، والذي يتوقع له تشكيل الحكومة المقبلة، لم يتعهد بإنهاء مشكلات بريطانيا في مدة برلمانية واحدة مدتها 5 سنوات، وطلب من الناخبين أن يمنحوه 10 سنوات كاملة حتى يصلح ما قال إنها أخطاء وخطايا 14 عامًا من حكم حزب المحافظين، فالمعروف أن بريطانيا تعاني ضعف الإنتاجية، وارتفاع معدلات الضرائب لأعلى مستوى لها منذ 70 عامًا، وأصبح شراء منزل في بريطانيا حلمًا بعيد المنال، ومع الزيادة الكبيرة في شيخوخة السكان يعاني القطاع الصحي أزمة طاحنة خاصة أصحاب الأمراض المزمنة.

ثانيًا: 5 حكومات دون جديد

لعل أكبر مؤشر على عمق الأزمة البريطانية أن البلاد شهدت تشكيل 5 حكومات خلال حكم المحافظين، منها 3 حكومات في عام واحد هو عام 2022، وهو معدل غير مسبوق منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ومنذ عام 2010 حتى استقالته من رئاسة الوزراء، فشل ديفيد كاميرون في تحقيق أي وعد للناخبين، بل على العكس تدهورت الخدمات العامة تدهورًا غير مسبوق، واضطر إلى الاستقالة لأنه كان مع بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، في حين جاءت نتيجة الاستفتاء عام 2016 لصالح “البريكست”، وجاءت بعده تريزا ماي من عام 2016 حتى 2019، وعندما فشلت في التوصل إلى اتفاق مع بروكسل بشأن شروط الخروج من الاتحاد الأوروبي استقالت من منصب رئيس الوزراء عام 2019، لكن خليفتها بوريس جونسون الذي كان مؤمنًا “بالبريكست” عانى فضائح كثيرة تتعلق بإدارته جائحة كورونا، ووفاة نحو 290 ألف بريطاني في الجائحة التي شكك فيها جونسون، وعندما استقال في سبتمبر (أيلول) 2022 لم تصمد خليفته ليز تراس في منصبها أكثر من 44 يومًا بعد أن ارتكبت أخطاء اقتصادية غير مسبوقة؛ وهو ما قاد إلى تولي ريشي سوناك في أكتوبر (تشرين الأول) 2022. هذا العدد الكبير من الحكومات كان دليلًا واضحًا على “عدم اليقين وعدم الاستقرار” في إدارة دولة كان ينظر إليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على أنها أكثر العواصم الغربية بعد واشنطن في التأثير بالقرارات الدولية.

ثالثًا: فقدان البوصلة

روج حزب المحافظين للبريكسيت، وخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد تصويت 52 % لصالح التخارج من أوروبا تحت عنوان “استعادة الهوية البريطانية”، والحصول على الاستقلال السياسي والاقتصادي الكامل بعيدًا عن بروكسل، والنتيجة الآن هي “فقدان كامل للبوصلة” الاقتصادية والاجتماعية، والبعض يدعو إلى العودة من جديد إلى الاتحاد الأوروبي بعد فشل النخبة السياسية بقيادة المحافظين في تحقيق أي وعد من الوعود الوردية التي قيلت قبل استفتاء 2016، لكن البعض الآخر يرى بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي كما هي الآن، ويراهن على تحقيق ما لم يتحقق منذ عام 2021 عندما تم الاتفاق على شروط الانفصال بين بروكسل ولندن.

ثالثًا: تضاؤل في الدور العسكري

جميع تقديرات جنرالات الجيش البريطاني الحاليين والسابقين تقول إن الجيش البريطاني يتضاءل على نحو غير مسبوق، وإن عدد الجنود الذين يخرجون من الجيش أكثر بكثير من الجنود الذين يرغبون في الالتحاق بالفروع المختلفة للجيش البريطاني، وهو ما يشير إلى أن جيش المملكة المتحدة سيكون الأصغر عددًا في آخر قرنين من الزمان، فعلى سبيل المثال، التحق بالجيش البريطاني 10 آلاف مجند في الفترة بين أكتوبر 2022 وأكتوبر 2023، لكن في الفترة نفسها غادر 16500 جندي، وبحسب مصادر متعددة، فإن عدد الجيش البريطاني عام 2026 لن يزيد على 67 ألف جندي، وهو أقل عدد منذ عام 1815 أيام القائد الفرنسي نابليون بونابرت، لكن اللافت أكثر ما قاله الجنرال باتريك ساندرز، رئيس الأركان العامة في وزارة الدفاع البريطانية، بأن الجيش البريطاني في ظل تراجع العدد والموارد والتدريب يتحول تدريجيًّا إلى القيام “بالمهام الداخلية فقط”؛ أي إنه سيصبح جيش “حرس حدود”، ولا يمكن أن يقوم بمهام خارجية على غرار مشاركة نحو 20 ألف جندي بريطاني في العراق وأفغانستان على نحو متزامن بداية من عام 2003، وأن الجيش البريطانية في طريقه إلى فقدان “المرونة الإستراتيجية” إذا واصل النزيف في عدد الجنود، والتراجع في تخصيص الموارد، خاصة أن “أصول الجيش منهكة”، وما يزيد إنهاكها هو “عدم التوافق بين الطموح والموارد” وفق تقدير الجنرال باتريك ساندرز.

رابعًا: لا جديد لدى العمال

لن يختلف الأمر مع حزب العمال عن حزب المحافظين، فآخر مرة فاز فيها حزب العمال البريطاني كانت على يد توني بلير عام 2005، وهو الذي تورط في غزو العراق مع جورج بوش الابن. وفي عام 2019، تلقى حزب العمال أكبر هزيمة له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهناك اتفاق على أن توجه الناخب البريطاني ناحية حزب العمال قبل إجراء الانتخابات بأيام قليلة يعود إلى فشل المحافظين، وليس لوجود رؤية مبدعة لدى العمال، رغم الوعود الوردية من العمال باقتصاد أقوى، وأمن أكبر، وطاقة أرخص، وخدمات صحية أفضل من خلال زيادة ساعات العمل لعيادات الصحة العامة، وتوفير 40 ألف موعد إضافي أسبوعيًّا خلال فترات المساء وأيام العطل الأسبوعية في المستشفيات والعيادات، وتأسيس شركة حكومية للطاقة، وزيادة أفراد الشرطة من أجل تعزيز الأمن، ومنع أي أنشطة معادية للنساء.

لكن ما يؤكد عدم جدية هذه الوعود هو أن حزب العمال يتحدث كثيرًا عن تعيين آلاف الأطباء والمدرسين، لكنه لا يجيب عن السؤال الأهم، وهو: من أين سيمول التعيينات الجديدة في ظل حديثه عن عدم رفع الضرائب؟

خامسًا: “انقراض انتخابي” للمحافظين

جميع المؤشرات واستطلاعات الرأي التي جرت مؤخرًا تقول إن حزب المحافظين لن يتعرض لكارثة انتخابية فقط؛ بل يمكن أن “ينقرض انتخابيًّا”، ويتحول إلى حزب صغير بعد أن كان منافسًا دائمًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي أفضل الأحوال سوف يحصل على 50 إلى 75 مقعدًا، وهو أقل عدد مقاعد حصل عليها الحزب خلال 8 عقود كاملة، ويساعد على “انقراض المحافظين” خروج تيار عريض من الحزب للانضمام إلى “حزب الإصلاح اليميني”، الذي يقوده نايجل فاراج.

أسلحة ستارمر

راهن حزب العمل البريطاني على فشل المحافظين طوال 14 عامًا، خاصة في الملف الاقتصادي، حيث عاش المواطن البريطاني حالة من التقشف طوال عهد المحافظين، بدأت مع الأزمة المالية العالمية عام 2008، كما أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعدم اليقين السياسي والاقتصادي بشأن الخطوات التالية، أفقد المحافظين أي نوع من المبادرة أو المكاسب على الأصعدة كافة.

حزب المحافظين والهروب إلى الأمام

لكن على الجانب الآخر، يراهن ريشي سوناك، زعيم حزب المحافظين، على نظرية “الهروب إلى الأمام”، والصدمة التي أحدثها بإجراء الانتخابات مبكرًا في يوليو (تموز) المقبل، وليس في أكتوبر (تشرين الأول)، أو نوفمبر (تشرين الثاني) المقبلين، وأنه لا يخشى حكم الشارع، أو استطلاعات الرأي، فهو يراهن أن ينحاز إليه المستقلون، الذين لم يحددوا موقفهم بعد من الانتخابات، حتى يكرر تجربة جون ميجور عام 1992، عندما كانت كل استطلاعات الرأي ضده، لكنه فاز في النهاية، كما أن استطلاعات الرأي كانت أيضًا مع تريزا ماي عام 2017، لكنها خسرت الأغلبية التي كانت تتمتع بها. ويحاول سوناك الفصل بين ما حققه في شهور قليلة، وفشل أسلافه، خاصة ليز تراس، وبوريس جونسون، ويراهن على بعض نجاحاته الاقتصادية، عندما نجح منذ توليه في أكتوبر (تشرين الأول) 2022 في تخفيض معدلات التضخم، وعودة الثقة بالجنيه الإسترليني، ويسعى إلى استغلال تردد حزب العمال بشأن غزة، وإحباط بعض العماليين موقف رئيس الحزب كير ستارمر، ويتفاءل بشهر يوليو (تموز)؛ لأنه لأول مرة منذ عام 1945 تُعقد الانتخابات في بريطانيا خلال هذا الشهر.

المؤكد أن حزب العمال سوف يفوز بالانتخابات البرلمانية مهما قيل عن وجود فرص للمحافظين، لكن الثابت أن أزمات بريطانيا سوف تستمر أيًّا من كان الساكن في “10 داوننغ ستريت”.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع