اقتربت أكبر دولة منتجة لليورانيوم في العالم خطوة أخرى نحو بناء محطة للطاقة النووية؛ ففي الأسبوع الماضي، استضافت العاصمة الكازاخستانية أستانا آخر جلسات الاستماع العامة العشرين التي أقيمت في مختلف أنحاء البلاد قبل الاستفتاء الوطني المزمع عقده الشهر المقبل، الذي خُصص لإجرائه 32 مليون دولار، بشأن ما إذا كان ينبغي البدء في إنتاج الطاقة النووية في البلاد.
الاستفتاء الذي سيضم سؤالًا واحدًا بسيطًا؛ وهو: “هل توافق على أن كازاخستان بحاجة إلى بناء محطة للطاقة النووية؟”، يحمل في طياته كثيرًا من المخاوف بشأن السلامة النووية، والتدخل الروسي المحتمل في كازاخستان، من خلال بوابة التسلح النووي، خاصةً في ظل التوجه الشرس نحو التنافس على امتلاك الطاقة النووية، فكثير من المحطات النووية التقليدية سيعاد تشغيلها قريبًا، كما سيعاد تشغيل مفاعلات جديدة في الصين، والهند، وكوريا الجنوبية، وأوروبا.
على مدى أكثر من نصف قرن، أجرى الاتحاد السوفيتي تجاربه النووية على أراضي كازاخستان، وأقام موقعًا في مقاطعة سيميبالاتينسك، كان يعد الثاني عالميًّا من حيث الحجم، أسفر عن نحو 450 تجربة نووية عاناها أكثر من مليون ونصف المليون شخص، وضمت تلك الترسانة النووية صناعات اليورانيوم، والوقود النووي، ومفاعلات نووية صناعية وبحثية، فضلًا عن قاعدة علمية وتقنية كبيرة. أما مخازن الأسلحة النووية فكانت تحتوي على 104 صواريخ من طراز “أس. أس- 18” الذاتية الإطلاق، تحمل 1216 رأسًا نوويًّا، إلى جانب قاعدة ضخمة لإنتاج الأسلحة الكيميائية والبيولوجية.
غير أن هذا النشاط النووي توقف في مايو (آذار) 1995، حيث دُمِّر آخر رأس حربي نووي في موقع سيميبالاتينسك، وفُجِّر النفق الأخير للتجارب النووية في يوليو (تموز) 2000، وفور إغلاق موقع سيميبالاتينسك للتجارب النووية بدأت حقبة كازاخستان الخالية من الأسلحة النووية، وانطلاقًا من أن أستانا أحد أكبر منتجي اليورانيوم في العالم، أبدت البلاد استعدادها للإسهام في تطوير صناعة الطاقة النووية السلمية، باحتضان مقر البنك الدولي للوقود النووي على أراضيها؛ بغية إتاحة إمكانية الحصول على المواد النووية للبلدان التي ترغب في تطوير الطاقة النووية للأغراض السلمية.
تعود فكرة بناء محطة للطاقة النووية في كازاخستان إلى عام 2018، عندما بدأت محطة الطاقة النووية في كازاخستان (KNPP)، التي حُدِّدت مشغلًا للمحطة المستقبلية، بإعداد دراسة جدوى لتبرير الحاجة إلى الطاقة النووية، واختيار موقع بناء المحطة، ومراجعة إنتاج الطاقة المتوقع للمحطة. وفي عام 2023 طلبت كازاخستان من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إجراء مراجعة لتقييم عملية اتخاذ القرار بشأن موقع المحطة، وبالفعل تمت مهمة المراجعة في أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم، من خلال لجنة خبراء من تركيا والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى اثنين من موظفي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفي هذا السياق، من المقرر بناء المحطة بالقرب من بحيرة بلخاش في منطقة ألماتي، وستُستخدَم مياهها لتبريد المفاعلات، على أن يكتمل العمل في المحطة عام 2034.
وجاءت الخطوة الأهم في طريق بناء المحطة النووية منذ أيام، حين أعلن الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف، خلال خطابه السنوي أمام المواطنين الكازاخستانيين في اجتماع مشترك للبرلمان، أن الاستفتاء على بناء محطة للطاقة النووية في البلاد من المقرر أن يتم في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، غير أن الدفع إلى بناء محطة للطاقة النووية قوبل بمعارضة كبيرة، على الرغم من الجهود الواضحة لإسكات المعارضة بشأن هذه القضية. وفي الأسابيع الأخيرة، مُنع كثير من الناشطين المعروفين بموقفهم المعارض لبناء محطة الطاقة النووية من حضور المناقشات العامة بشأن هذه المسألة. ونظرًا إلى البيئة السياسية المتشددة في البلاد، فمن المرجح أن تكون الإجابة في صالح بناء المحطة النووية.
ولكون فكرة بناء محطة للطاقة النووية في كازاخستان متداولة في البلاد منذ سنوات، كانت هناك فرصة للتساؤل عن البلدان التي ستشارك في المشروع، وهو ما حسمته وزارة الطاقة الكازاخستانية في أربع شركات قيد الدراسة؛ شركة روساتوم الروسية، مع شركة إي دي إف الفرنسية، ومؤسسة الطاقة النووية الوطنية الصينية، وشركة كوريا للطاقة الكهرومائية والنووية من كوريا الجنوبية، لكن قد تدفع التطورات الجيوسياسية الحالية السلطات الكازاخستانية إلى منح عقد البناء لشركة روساتوم الروسية، التي تسيطر عليها الدولة، ويعتقد بعضهم أن الصفقة قد تمت بالفعل، وتنتظر فقط الوقت المناسب لإعلانها، وهذا الاحتمال يغذي القلق بشأن الأخطار المتعلقة بالسلامة والسيادة في ظل التطورات الأخيرة للحرب الروسية الأوكرانية.
يمكن فهم تحول توجهات كازاخستان النووية في ظل العجز المتزايد في الطاقة؛ فعلى المستوى الوطني، وخاصة في المحافظات، يشكل نقص الطاقة مشكلة متنامية مع ارتفاع الاستهلاك في الجنوب المكتظ بالسكان؛ مما يؤثر سلبًا في الشبكة الوطنية. وفي العام الماضي، توقعت شركة سامروك للطاقة المملوكة للدولة في كازاخستان أن يتضاعف العجز الوطني في الطاقة ليصل إلى 3 جيجا وات بحلول عام 2029، إذ يُنتَج نحو 80% من الكهرباء في كازاخستان عن طريق حرق الفحم، وتُولَّد 15% أخرى عن طريق الطاقة الكهرومائية، ويأتي الباقي من مصادر الطاقة المتجددة، ومن ثم فإن إضافة الطاقة النووية إلى المزيج الحالي هو حل سريع للمشكلات القائمة.
جاء تشجيع الحليف الروسي محفزًا قويًّا لخطوات عودة كازاخستان إلى القوى النووية في العالم، خاصةً بعد توصل أوزبكستان وروسيا إلى اتفاق بشأن بناء محطة طاقة نووية صغيرة تبنيها موسكو، غير أنه من المتوقع أن تكون محطة الطاقة النووية المستقبلية في كازاخستان أكبر بكثير من حيث القدرة مقارنة بنسخة أوزبكستان قيد التنفيذ، التي تبلغ 330 ميجاوات، وهو أقل من حجم المحطة التي كانت طشقند تنوي في الأصل بناءها.
فضلًا عن هذا، تنظر كازاخستان إلى أن احتفاظها بالسلاح النووي سيضعها في مصاف الدول العظمى، ويشكل ضمانًا لأمنها، ورادعًا لمطامع الخصوم في ظل الثغرات في الأسلحة التقليدية التي كشفت عنها الصراعات في المنطقة، غير أن النفقات المادية الضخمة التي ستتحملها كازاخستان، بالإضافة إلى التبعات الجيوسياسية المعقدة في محيط آسيا، قد تقوض اتخاذها خطوات سريعة وغير دقيقة في مسار بناء المحطة النووية.
إن الاستفتاء الوشيك بشأن بناء محطة للطاقة النووية في كازاخستان ليس مجرد قضية محلية أو وطنية؛ إنما هو محل نقاش عالمي، في ظل نسيج معقد من الاعتبارات الاقتصادية والسياسية والبيئية والتكنولوجية، ولا شك أن نجاح البرنامج النووي من شأنه أن يعزز مكانة كازاخستان الجيوسياسية، فمن خلال التحول إلى مورد إقليمي، أو ربما عالمي، للطاقة، قد تتمكن كازاخستان من بسط نفوذها في مختلف أنحاء آسيا الوسطى، وخارجها؛ ومن ثم، قد يؤدي هذا إلى تغيير ديناميكيات القوة، وخاصة مع روسيا والصين المجاورتين، وقد يجعل كازاخستان لاعبًا أكثر أهمية في الجغرافيا السياسية للطاقة، وهو أمر ذو أهمية، خاصة في ضوء الحرب الروسية الأوكرانية، وهدف الاتحاد الأوروبي المتمثل في تقليل اعتماد الكتلة الغربية على مصادر الطاقة الروسية؛ لذا فإن قضية الطاقة النووية في كازاخستان هي أكثر من مجرد مسألة صادرات الطاقة؛ بل هي مسألة تتعلق بالاستقرار الإقليمي، والشراكات الإستراتيجية للبلاد.
وبهذا المعنى، يمكن لأوروبا والولايات المتحدة أن تنظرا إلى مداولات كازاخستان بشأن الطاقة النووية باعتبارها تتماشى مع الأهداف الأوسع نطاقًا المتعلقة بأمن الطاقة، والتخفيف من آثار تغير المناخ، والاستقرار الإقليمي. ومع اعتراف الاتحاد الأوروبي بالطاقة النووية باعتبارها صناعة محورية لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050، فإن جهود كازاخستان قد تجد دعمًا عالميًّا غربيًّا واسع النطاق.
مما سبق يمكن القول إنه مع أن الاستفتاء على بناء محطة نووية في كازاخستان لم يعقد بعد، فإن نتيجته محسومة بفعل الواقع السياسي الصارم في البلاد، لكن السلطات تصر على إجرائه لتوفير غطاء سياسي في حالة وقوع حوادث مستقبلية، إذ يُحدَّد مستقبل هذه القضايا الإستراتيجية من الأعلى، ولكن التصويت الشعبي يسمح للسلطات بتحويل المسؤولية إلى الشعب.
ومن جانب آخر، فإن التركة النووية التي ورثتها كازخستان عن الاتحاد السوفيتي جعلتها رابعة أضخم ترسانة نووية في العالم؛ لذا فالحديث عن إسناد مهمة بناء المحطة النووية إلى روسيا يمكن أن يقوض السياسة الخارجية التي تمارسها كازاخستان منذ فترة طويلة، المتمثلة في تعددية النواقل، والتي توازن فيها كازاخستان العلاقات بين القوى العالمية والإقليمية بحيث لا يمارس أي منها نفوذًا مسيطرًا على خيارات الأستانا، فضلًا عن أنه قد يمثل تحديًا مباشرًا للقوى الغربية التي تستهدف محاصرة النفوذ الروسي في المنطقة، وخاصة النفوذ النووي.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.