تحتفظ الولايات المتحدة بوجود عسكري واسع النطاق في منطقة الشرق الأوسط، يشمل انتشارًا لقواتها في أكثر من اثنتي عشرة دولة، بالإضافة إلى تمركز وحدات بحرية في مختلف أنحاء المياه الإقليمية للمنطقة، وقد شهد هذا الوجود توسعًا ملحوظًا بعد سقوط نظام بشار الأسد، في إطار إستراتيجية أمريكية جديدة تهدف إلى تعزيز قدرات الردع، واحتواء التهديدات الأمنية المرتبطة بإيران وشبكتها الإقليمية من الفواعل المسلحة، في مقدمتها حزب الله في لبنان، وجماعة الحوثي في اليمن، فضلًا عن عدد من الفصائل المسلحة المنتشرة في العراق وسوريا؛ ما يعكس إدراكًا أمريكيًّا استباقيًّا لطبيعة التهديدات غير التقليدية التي تفرضها هذه الأطراف على الأمن الإقليمي، وتنامي الحاجة إلى مقاربة عسكرية مرنة ومتعددة المستويات لمواجهتها.
وفي هذا السياق، يثير الحديث الدائر عن وفد أمريكي رفيع المستوى سيزور سوريا خلال أيام، لتوقيع اتفاقية رسمية مع الحكومة السورية من أجل إقامة قاعدة عسكرية ثابتة على الأراضي السورية، المخاوف من تداعيات وجود قاعدة رسمية أمريكية بموافقة الحكومة السورية للمرة الأولى في تاريخ البلاد، لكون هذا التحول الجذري في الإستراتيجية الأمريكية تجاه سوريا لا يمكن فهمه بمعزل عن بيئة التنافس الجيوسياسي في الشرق الأوسط، لا سيما على أمن دول الجوار، مثل العراق، وتركيا، والأردن، وإسرائيل، ودول الخليج.
تشير التقديرات إلى أن سوريا لديها نحو 28 موقعًا أمريكيًّا، منها 24 قاعدة عسكرية، و4 نقاط وجود منذ بداية الحرب الأهلية بين النظام السوري السابق والمعارضة السورية، حيث تعد قاعدة رميلان في الحسكة من أهم القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا، تليها قاعدة المالكية بريف الحسكة الشمالي الشرقي، بالإضافة إلى قاعدة تل بيدر، وهي إحدى أهم القواعد الأمريكية؛ نظرًا إلى قربها من طريق “إم 4” الإستراتيجي، كما تتكامل مع قاعدتي لايف ستون وقسرك.
ولعل الوجود العسكري الأمريكي في منطقة التنف، الذي حولته إلى قاعدة عسكرية عام 2017، أهم القواعد العسكرية الأمريكية، حيث تأتي أهمية البادية السورية في أجندات واشنطن من خلال السيطرة على معبر التنف الحدودي في منطقة المثلث السوري العراقي الأردني، إذ تمثلت أهداف هذه القاعدة على نحو أساسي في تعطيل الممرات التي تستخدمها إيران لدعم النظام السوري السابق، والعمل على قطعها لإضعاف موقف إيران العسكري والاقتصادي، بالإضافة إلى محاولة واشنطن تطويق آبار النفط والغاز، فضلًا عن تقويض النفوذ الروسي في سوريا. وكما هو واضح، تتبع الولايات المتحدة نهجًا يعمد إلى دعم وجودها في سوريا وتكثيفه في منطقة الشمال الشرقي، حيث تعد محافظة الحسكة مركز الانتشار العسكري الأمريكي الأبرز في سوريا.
ومنذ عام 2014 نشرت الولايات المتحدة القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا تحت ذريعة مساعدة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يقودها الأكراد في قتال تنظيم الدولة الإسلامية، ومع اقتراب نهاية الولاية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترمب خفضت الولايات المتحدة وجودها من نحو ٢٠٠٠ إلى ٩٠٠ جندي، ثم زادته -لفترة وجيزة- إلى ٢٠٠٠ جندي مجددًا في أواخر عام ٢٠٢٤ مع سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
وابتداءً من شهر أبريل (نيسان) الماضي، أعلنت الولايات المتحدة خططًا لإعادة تمركز قواتها في سوريا وتقليص عددها، وجاء هذا القرار عقب اتفاق أُبرم في مارس (آذار) المنصرم بين الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع وقائد قوات قسد مظلوم عبدي، من أجل دمج المؤسسات العسكرية والمدنية في شرق سوريا ضمن الدولة السورية؛ لذلك سحبت الولايات المتحدة نحو 500 جندي، مما أدى إلى تقليص الوجود الحالي إلى 1500 جندي، وأغلقت قاعدتين عسكريتين أمريكيتين في محافظة دير الزور، وسلمت قاعدة ثالثة لقوات سوريا الديمقراطية.
كشف انسحاب القوات الأمريكية من قواعد دير الزور بعد الانسحاب من منبج غرب نهر الفرات عن نية واشنطن إطلاق مرحلة جديدة من التفاهمات بين قوات سوريا الديمقراطية وحكومة الشرع في مناطق أخرى من المحافظة شرق النهر، مفتاح هذه المناقشات هو حقل العمر النفطي، وحقل كونوكو للغاز، اللذين لهما أهمية خاصة لكل من قوات سوريا الديمقراطية وحكومة الشرع، وفي المقابل أعطت الولايات المتحدة قوات سوريا الديمقراطية مهلة حتى أواخر أغسطس (آب) المقبل للاندماج في الجيش السوري.
خلال الأيام الماضية، وتحديدًا في الثاني من يونيو (حزيران) الجاري كشف المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، أن الولايات المتحدة ستُقلص عدد قواعدها العسكرية الأساسية في سوريا من ثماني قواعد إلى قاعدة واحدة فقط، وقد بدأت القوات الأمريكية بالفعل بمغادرة بعض القواعد التي استخدمتها، خاصة في محافظة دير الزور، وفي إطار إعلان الولايات المتحدة سحب جزء من قواتها العسكرية من سوريا، مع تأكيد نيتها إضفاء الطابع الرسمي على بقاء قواتها في البلاد. من المتوقع أن يصل وقد عسكري أمريكي رفيع المستوى إلى دمشق في الأيام المقبلة لتوقيع اتفاقية مع الحكومة السورية تنظم وضع القواعد العسكرية الأمريكية على الأراضي السورية، حيث تشير التحليلات الأمريكية أن القاعدة المزمع الاتفاق عليها ستقام في التنف جنوب شرقي سوريا على الحدود السورية الأردنية العراقية، مع احتمالية طلب الولايات المتحدة لإنشاء قاعدة إضافية على الساحل السوري أصغر حجمًا.
وفي هذا السياق، تسعى الولايات المتحدة -خلال خطتها الجديدة- إلى إجراء تحول جذري في شكل الوجود العسكري الأمريكي وطبيعته للانتقال من وجود غير معترف به من الحكومة السورية، ويعد احتلالًا أو توغلًا غير قانوني من وجهة نظر دمشق، وكانت القوات الأمريكية تعتمد على تحالفات مع فصائل مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) دون موافقة دمشق، من خلال انتشار القوات في عدة مناطق شمال شرق سوريا، مثل دير الزور والرقة والحسكة، لكن الوجود الأمريكي المنشود سيصبح شرعيًّا بموجب اتفاقية رسمية مع الحكومة السورية؛ مما يمنحه غطاء قانونيًّا دوليًّا، فالقواعد الأمريكية الجديدة ستكون بموافقة دمشق، مما قد يقلل الاحتجاجات الدولية، أو اتهامات انتهاك السيادة السورية.
وبالنظر إلى دلالة الوجود العسكري الأمريكي في قاعدة التنف نجده يخدم الأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة في سوريا، حيث تستطيع القوات الأمريكية مواصلة العمليات العسكرية ضد أي تطور محتمل لتنظيم داعش، فضلًا عن مراقبة تحركات الفصائل الموالية لإيران لمنع إنشاء خطوط إمداد برية للأسلحة، وتطمح الولايات المتحدة من خلال قاعدة التنف إلى وجود طويل الأمد تحت مظلة اتفاقية رسمية؛ بهدف مراقبة الحدود السورية العراقية لمنع تهريب الأسلحة للفصائل الإيرانية؛ ما قد يشكل تهديدًا للأمن الإقليمي للمنطقة، وأمن إسرائيل في المقام الأول.
وضعت الولايات المتحدة ثمانية شروط للقيادة السورية الجديدة خلال اللقاء المثير للجدل الذي جمع بين الرئيس الأمريكي دونالد ترمب والرئيس السوري الحالي أحمد الشرع في السعودية منتصف شهر مايو (أيار) المنصرم، وشملت المطالب الأمريكية التزامًا علنيًّا من الحكومة السورية بالتعاون مع التحالف الدولي ضد داعش، وتفويض الولايات المتحدة بإجراء عمليات مكافحة الإرهاب في سوريا ضد الأفراد الذين يعتبرون تهديدًا للأمن القومي الأمريكي، ومنع المقاتلين الأجانب من تولي مناصب عليا في الجيش السوري، وإعلان رسمي من حكومة الشرع يحظر جميع الفصائل الفلسطينية والأنشطة السياسية في سوريا، واتخاذ تدابير لمنع عودة إيران إلى البلاد، والتصنيف الرسمي للحرس الثوري الإسلامي وحزب الله منظمات إرهابية.
ولكن سرعان ما قلص ترمب طلباته من الشرع من ثمانية إلى أربعة مطالب أساسية، لتتضمن الشروط الجديدة: الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم مع إسرائيل، وطرد جميع الجماعات الإرهابية الأجنبية، ومنها الفصائل الفلسطينية، من سوريا، ومساعدة الولايات المتحدة على منع عودة داعش، وأخيرًا تولي مسؤولية إدارة مراكز احتجاز داعش، وفي مقابل تلك المطالب قدمت الإدارة الأمريكية عدة تنازلات، من أهمها رفع العقوبات عن سوريا، وإعلان استعداد الولايات المتحدة فتح صفحة جديدة في علاقاتها مع سوريا، تقوم على التعاون والشراكة، كما استثنى ترمب سوريا من قائمة حظر السفر إلى الولايات المتحدة، بعد أن كانت مدرجة ضمن القائمة على نحو دائم في السابق.
مهدت تلك الشروط لخطوات الإدارة الأمريكية نحو إرساء وجود عسكري رسمي في البلاد من خلال الاتفاقية المتوقع إبرامها في الأيام المقبلة، حيث ستمثل نقلة نوعية في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه سوريا، لينتقل الوجود العسكري غير المعترف به إلى شراكة رسمية وقانونية مع الحكومة السورية؛ ومن ثم فإذا تم التوقيع على هذه الاتفاقية، فلن تقتصر آثارها على إعادة تشكيل الوجود العسكري الأمريكي في سوريا فحسب؛ بل قد تعكس أيضًا تحولًا أوسع في طبيعة العلاقة بين البلدين، من الخصومة الى الشراكة؛ مما قد يمهد الطريق لعهد جديد من التعاون بين واشنطن ودمشق، وشراكات دائمة واستثمارات أمريكية في قطاعات رئيسة مثل الطاقة؛ ما يسهم في إعادة إعمار البلاد على المدى الطويل.
تُسلط القاعدة الأمريكية الرسمية في سوريا -حال الاتفاق عليها- الضوء على تعقيدات إدارة الترتيبات الأمنية في بيئة متعددة الأقطاب، ويلقي بظلاله على الأمن الإقليمي والدولي للمنطقة، ويتشابك مع أصحاب المصالح في الساحة السورية كما يتضح فيما يلي:
خلاصة القول أن الوجود الرسمي للقوات الأمريكية في سوريا يمثل عاملًا مهمًّا ومركبًا في موازين الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط. هذا الوجود، مع أنه محدود نسبيًّا من حيث العدد، فإن تأثيره يتجاوز الجغرافيا السورية ليشمل ملفات إستراتيجية كبرى مرتبطة بإيران، وروسيا، وتركيا، وإسرائيل، وتنظيم داعش؛ ومن ثم تشير المساعي الأمريكية إلى ترسيخ وجود عسكري شرعي في سوريا إلى نية واشنطن إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي في سوريا، حيث تخلت واشنطن عن نفوذها غرب الفرات لتركيا، التي تستعد لتولي الدور الأمريكي في مكافحة داعش في المنطقة، في حين تحافظ الولايات المتحدة على نفوذها في سوريا من خلال إدارة العلاقات بين تركيا وإسرائيل من جهة، وإسرائيل وإيران من جهة أخرى.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.