مقالات المركز

الإصلاحات الليبرالية في عهد غايدار.. طريق روسيا نحو السوق المفتوحة


  • 29 سبتمبر 2024

شارك الموضوع

شكّلت الإصلاحات الليبرالية في عهد غايدار منعطفًا حاسمًا في تاريخ الاقتصاد الروسي؛ إذ كانت تلك الإصلاحات محاولة جذرية لإنقاذ البلاد من الانهيار الاقتصادي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. كانت روسيا -في أوائل التسعينيات- تواجه أزمة اقتصادية غير مسبوقة؛ إذ شهدت البلاد تضخمًا كبيرًا، ونقصًا في المواد الغذائية، بالإضافة إلى الانخفاض الكبير في قيمة الروبل. وعلى الرغم من الجدل الكبير بشأن آثار هذه الإصلاحات، فإن الهدف الأساسي كان تجنب المجاعة والفوضى الاقتصادية التي كانت تهدد مدنًا رئيسة مثل موسكو، وسانت بطرسبورغ.

تشير الوثائق الرسمية للحكومة السوفيتية قبل إصلاحات غايدار إلى أن الاحتياطيات الغذائية كانت على وشك النفاد؛ ما جعل الأزمة تقترب من مرحلة الكارثة. وكانت البلاد تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الواردات الزراعية، ولكن انهيار النظام السوفيتي أدى إلى فقدان القدرة على تأمين هذه الواردات بسبب نقص العملة الصعبة؛ ومن ثم جاء غايدار وفريقه إلى السلطة وهم يدركون تمامًا حجم الكارثة التي كانت تلوح في الأفق.

لم تكن الإجراءات الاقتصادية التقليدية قادرة على التعامل مع هذه الأزمة؛ ولذلك لجأ غايدار إلى سياسات صادمة، مثل تحرير الأسعار، وكبح جماح الإنفاق الحكومي؛ لتحفيز قوى السوق. كانت تلك الإصلاحات محفوفة بالأخطار، وجاءت على حساب مستويات معيشة المواطنين على المدى القصير، لكنها كانت حتمية لتجنب انهيار شامل. وكما أشار غايدار في خطاباته، كان الهدف الأساسي هو إنقاذ روسيا من مصير مشابه لما حدث بعد الثورة البلشفية؛ حيث كانت البلاد مهددة بالفوضى والمجاعة على نطاق عريض.

وفقًا لكثير من المؤرخين والاقتصاديين، لم تكن هناك خيارات كثيرة أمام غايدار. النظام الاقتصادي السوفيتي لم يعد قابلًا للحياة، وكان أمام الحكومة الروسية خيارين: إما الاستمرار في السياسات القديمة التي كانت ستؤدي إلى انهيار شامل، وإما اتخاذ إجراءات صارمة للانتقال إلى اقتصاد السوق.

بالرغم من الانتقادات الشديدة التي واجهتها إصلاحات غايدار، فإنها كانت بمنزلة جسر لا مفر منه نحو إعادة هيكلة الاقتصاد الروسي. لم يكن الانتقال إلى اقتصاد السوق مجرد مسألة خيار سياسي؛ بل كان ضرورة وجودية لإنقاذ البلاد من الإفلاس التام. صحيح أن الآثار السلبية كانت مؤلمة على المجتمع الروسي، حيث ارتفعت معدلات الفقر والبطالة ارتفاعًا حادًا، لكن البديل كان أكثر خطورة: انهيار اقتصادي شامل، وفوضى سياسية كانت ستعيد روسيا إلى مرحلة ما بعد الثورة البلشفية.

إن التحديات التي واجهها غايدار وفريقه لم تكن اقتصادية فقط؛ بل كانت سياسية أيضًا؛ ففي فترة وجيزة، انهار الاتحاد السوفيتي، وتلاشى النظام المركزي الذي كان يحكم البلاد بقبضة حديدية؛ مما جعل الحكومة الروسية الجديدة تواجه فراغًا سياسيًّا ومؤسساتيًّا كبيرًا. لم يكن أمام غايدار كثير من الوقت أو الخيارات لتجنب الكارثة. كان تحرير الأسعار، وتخفيف القيود الحكومية على الأسواق، خطوات قاسية، ولكنها ضرورية لوقف الانهيار.

السياق التاريخي والاقتصادي للإصلاحات الليبرالية في روسيا

في مطلع التسعينيات، كانت روسيا تقف على حافة انهيار اقتصادي شامل بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وهو ما زعزع أسس النظام الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، في البلاد. لعقود طويلة، كان الاقتصاد السوفيتي يعتمد على التخطيط المركزي، وسيطرة الدولة الكاملة على جميع القطاعات الاقتصادية، لكن مع الانهيار المفاجئ للنظام الشيوعي، وجدت روسيا نفسها في مواجهة أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة، من بينها التضخم الكبير، وانهيار الروبل، وعجز الحكومة عن تلبية احتياجات المواطنين الأساسية، مثل الغذاء، والوقود. هذا بالإضافة إلى توقف المصانع، وارتفاع معدلات البطالة ارتفاعًا غير مسبوق، وانعدام الثقة بالنظام المالي. الأزمة الاقتصادية كانت تتفاقم يوميًّا، حتى إن بعض المدن الكبرى، مثل موسكو، وسانت بطرسبورغ، كانت تواجه خطر المجاعة، حيث كانت المخزونات الغذائية شبه منعدمة.

في هذا السياق المضطرب والحرج، برز إيغور غايدار مهندسًا للإصلاحات الليبرالية الجذرية التي هدفت إلى إعادة هيكلة الاقتصاد الروسي على أسس جديدة تمامًا. كان الوضع يتطلب تغييرات سريعة وشاملة لتجنب الانهيار الكامل للدولة الروسية الفتية، التي خرجت للتو من عباءة الاتحاد السوفيتي. أدرك غايدار، ومعه فريق من الاقتصاديين الليبراليين، أن العودة إلى النظام القديم، أو الاعتماد على الإصلاحات التدريجية، لن يكون كافيًا لإنقاذ البلاد من أزمتها الاقتصادية؛ ومن ثم تبنى سياسات جذرية لتحرير الأسعار، وإنهاء احتكار الدولة للتجارة الخارجية، وفتح الأسواق أمام المنافسة الحرة.

كان السياق الاقتصادي والسياسي آنذاك مملوءًا بالتحديات؛ فمن جهة، كانت الحكومة الروسية تحت ضغط كبير لضمان بقاء الدولة، وتجنب الفوضى الاجتماعية، ومن جهة أخرى، كانت الإصلاحات الليبرالية تُنفذ في بيئة يسيطر عليها عدم الاستقرار السياسي الداخلي، وتفكك النسيج الاجتماعي. هذه الإصلاحات لم تكن مجرد تحولات اقتصادية؛ بل كانت جزءًا من محاولة شاملة لإنقاذ البلاد من الانهيار التام، وإعادة توجيه مسارها نحو اقتصاد السوق. وبالرغم من التكاليف الاجتماعية الكبيرة التي صاحبت هذه الإصلاحات، خاصة فيما يتعلق بارتفاع معدلات الفقر والبطالة، فإنها شكّلت خطوة حاسمة في طريق روسيا نحو الاستقرار الاقتصادي، والسياسي.

الإصلاحات الاقتصادية.. تحرير الأسعار والتجارة

الإصلاحات الاقتصادية التي قادها إيغور غايدار في بداية التسعينيات كانت محاولة جذرية لتغيير الأسس الهيكلية للاقتصاد الروسي، الذي كان يعتمد اعتمادًا كاملًا على التخطيط المركزي، والسيطرة الحكومية. من أبرز تلك الإصلاحات كان تحرير الأسعار، وهي خطوة وُصفت بأنها شديدة الخطورة، ولكنها ضرورية. قبل الإصلاحات، كانت الحكومة السوفيتية تتحكم في الأسعار تحكمًا مباشرًا؛ مما أدى إلى اختلالات كبيرة في العرض والطلب، وأسعار غير واقعية للسلع والخدمات؛ ونتيجة لذلك، عانت روسيا نقصًا حادًا في المنتجات الأساسية، حيث كانت الأسعار الرسمية للدولة أقل بكثير من تكاليف الإنتاج؛ مما أدى إلى فراغ الأرفف في المتاجر، وظهور السوق السوداء بديلًا لاحتياجات الناس.

قرار تحرير الأسعار في أوائل عام 1992 جاء ضمن سياسة “العلاج بالصدمة” التي اعتمدها غايدار وفريقه الاقتصادي. كان الهدف من هذه الخطوة هو القضاء على اختلالات السوق، وتشجيع الإنتاج المحلي من خلال السماح للأسعار بالتكيف بحرية مع قوى السوق. هذه الخطوة أزالت القيود الحكومية المفروضة على تسعير السلع والخدمات؛ مما أدى إلى ارتفاع الأسعار سريعًا، لكن في المقابل، بدأت الأسواق تستجيب من خلال توفير السلع التي كانت نادرة سابقًا. ومع تحرير الأسعار، ارتفعت تكلفة المعيشة ارتفاعًا كبيرًا، وأدى ذلك إلى ضغط كبير على شريحة كبيرة من المواطنين الروس، لكن غايدار كان يرى أن هذا الحل الجذري كان السبيل الوحيد لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار الكامل.

إلى جانب تحرير الأسعار، كانت الإصلاحات التجارية جزءًا من التحول الاقتصادي. قررت الحكومة الروسية إنهاء احتكار الدولة للتجارة الخارجية، وفتح الباب أمام الشركات الخاصة للمشاركة في عمليات الاستيراد والتصدير. كان هدف هذا التحول هو إدخال الاقتصاد الروسي في النظام التجاري العالمي، وتعزيز المنافسة المحلية والدولية. مع تخفيف القيود التجارية، تمكنت روسيا من زيادة تدفق السلع المستوردة، خاصة المواد الغذائية، والسلع الأساسية، التي كانت البلاد تعاني نقصها. كما فتحت هذه الخطوة الباب أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة، التي كانت ضرورية لتنشيط الاقتصاد الروسي، ودعمه بالتكنولوجيا، والخبرات العالمية.

رغم الانتقادات الشديدة التي واجهتها هذه السياسات، خاصة من الطبقات الفقيرة التي تأثرت بالارتفاع الكبير في الأسعار، فإن تحرير التجارة عزّز التنافسية، وأدى إلى تنشيط قطاع الأعمال الخاص. هذه التحولات خلقت طبقة جديدة من رواد الأعمال، وأسهمت في تطور الصناعات المحلية التي كانت تعتمد سابقًا على الدعم الحكومي. كانت هذه الإصلاحات تهدف إلى بناء اقتصاد أكثر مرونة واستقلالية، قادر على المنافسة في الأسواق العالمية، وهو ما كان ضروريًّا لتجاوز روسيا حقبة الفوضى الاقتصادية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي.

التحديات السياسية والمقاومة الداخلية

الإصلاحات الليبرالية التي قادها إيغور غايدار لم تواجه تحديات اقتصادية فحسب؛ بل واجهت أيضًا مقاومة سياسية قوية من داخل روسيا. كانت البلاد تمر بفترة من عدم الاستقرار السياسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث تلاشت السلطة المركزية التي كانت تمسك بزمام الأمور عقودًا طويلة. واجه غايدار -وفريقه- حكومة مكونة من قوى متضاربة، بعضها لا يزال متمسكًا بالمبادئ الشيوعية، وبعضها الآخر يطالب بإصلاحات أكثر بطئًا وتدريجية. هذه الانقسامات السياسية أضعفت قدرة الحكومة على تنفيذ إصلاحاتها على نحو سلس؛ مما أدى إلى صراعات داخلية، ومفاوضات طويلة الأمد بشأن الاتجاه الذي يجب أن تسلكه روسيا.

من جهة أخرى، كانت الإصلاحات تواجه مقاومة شديدة من جانب النخب الاقتصادية والسياسية القديمة التي كانت مستفيدة من النظام السوفيتي السابق. هذه النخب رأت في تحرير الأسعار وفتح الاقتصاد تهديدًا مباشرًا لمصالحها، حيث فقدت هذه الفئات جزءًا كبيرًا من نفوذها الاقتصادي والسياسي مع انهيار التخطيط المركزي. بالإضافة إلى ذلك، أدى تراجع دور الدولة في الاقتصاد إلى خسارة كثير من المؤسسات الحكومية الدعم المالي؛ ما جعل قادة تلك المؤسسات يعارضون بشدة السياسات التي كان غايدار يدعو إليها.

التحديات السياسية كانت تتجلى أيضًا في المعارضة الشعبية الكبيرة التي واجهتها الإصلاحات. ارتفاع الأسعار، وتراجع مستوى المعيشة، وزيادة البطالة، أدت إلى احتجاجات واسعة النطاق من جانب المواطنين الذين رأوا في الإصلاحات الليبرالية مصدرًا لمعاناتهم. هذه الاحتجاجات شكلت ضغطًا كبيرًا على الحكومة الروسية الجديدة، وكانت هناك دعوات متزايدة للعودة إلى السياسات الاشتراكية، أو تبني حلول أكثر اعتدالًا وتدريجية.

على الرغم من المقاومة الداخلية القوية، كان غايدار وفريقه يدركون أن الوقت كان عاملًا حاسمًا في تنفيذ الإصلاحات. تأجيل الإصلاحات أو تخفيفها كان سيؤدي إلى استمرار الفوضى الاقتصادية والانهيار؛ ونتيجة لذلك، اعتمد غايدار على دعم الرئيس بوريس يلتسن، الذي كان له دور حاسم في تمكين الإصلاحات الاقتصادية والسياسية. في النهاية، رغم الصعوبات والمعارضة، استطاع غايدار تحقيق إصلاحات هيكلية كبرى، مهدت الطريق أمام تحول روسيا نحو اقتصاد السوق، على الرغم من التكاليف السياسية والاجتماعية الباهظة التي صاحبت هذا التحول.

الاستنتاجات

الإصلاحات الليبرالية التي قادها إيغور غايدار كانت ضرورة حتمية لإنقاذ الاقتصاد الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وتجنب الفوضى الاقتصادية والمجاعة. تحرير الأسعار والتجارة كان نقطة محورية في إعادة هيكلة الاقتصاد الروسي. ومع أن هذه الإصلاحات جاءت بتكاليف اجتماعية عالية تمثلت في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، فإنها كانت خطوة لا مفر منها لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل. واجهت هذه الإصلاحات مقاومة شديدة من النخب السياسية والاقتصادية التي رأت فيها تهديدًا لمصالحها، وكذلك من الطبقات الشعبية التي تأثرت سلبًا بالارتفاع السريع للأسعار، وتدهور مستوى المعيشة. ومع ذلك، كان غايدار وفريقه يدركون أن تأجيل هذه الإصلاحات -أو تخفيفها- سيؤدي إلى استمرار الفوضى الاقتصادية؛ ومن ثم، كانت الإصلاحات ضرورية لتحويل روسيا إلى اقتصاد سوقي أكثر استقرارًا ومرونة، على الرغم من التكاليف السياسية والاجتماعية الباهظة التي صاحبت هذا التحول.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع