نعرض في المقال الحالي رؤية الباحث الأمريكي غوردون هان عن الأوراسية الجديدة في روسيا، وعلاقتها بالحرب في أوكرانيا وفقًا لما جاء في كتابه الشهير “أوكرانيا على الحافة.. روسيا والغرب والحرب الباردة الجديدة”.
يرى المؤلف أنه حتى أواخر القرن التاسع، كان الفكر الحضاري الروسي منقسمًا بين مناصري الغرب ومناصري الجامعة السلافية، وقد تمكن الاشتراكيون لاحقًا من اختراق صفوف كل من هذين الفريقين في مطلع القرن العشرين.
المتغربون رأوا أن مصير روسيا هو مصير أوروبا، فلديهم أنه ليس مهمًّا تأثر روسيا بالأرثوذكسية الروسية، ونير المغول، والنهضة العلمية والثقافية المتأخرة في الأدب الروسي؛ لأن مصير بلادهم يكمن في علاقاتها الوطيدة بأوروبا. وذهب هؤلاء المتغربون إلى القول بأنه كان لزاماً على روسيا أن تتبنى المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على النمط الأوروبي.
على الناحية الأخرى، رأى مناصرو الجامعة السلافية أن العالم الروسي والسلافي فريد من نوعه، حيث حلت الروحانية الأرثوذكسية الشرقية محل المادية (سواء الرأسمالية أو الاشتراكية) والعقلانية الآلية، وتغلبت الجماعية الروحية على الفردية والمنافسة.
وحين انهار الاستبداد الروسي، وأخذت الشيوعية البلشفية في الصعود، اضطر عدد من النخبة الروسية المثقفة إلى الهروب واللجوء إلى الغرب الأوروبي، وهناك أعادوا التفكير في المفاهيم الحضارية الكبرى.
لقد تلقت فكرة السلافية ضربة بهزيمة روسيا في الحرب العالمية الأولى؛ ومن ثم نشأ اتجاه جديد استجابة لهذه المعضلة إثر الهزيمة، فأعاد مناصروا السلافية التفكير في صواب ما اتخذوه من رفض الفكر السياسي الغربي. لقد حلت رؤية أكثر اتساعًا محل الوحدة السلافية والاستبداد الإمبراطوري الروسي، وهي رؤية الأوراسية؛ أي الجمع بين أوروبا وآسيا في روسيا الواحدة. هؤلاء الأوراسيون رفضوا المبالغة في فكرة السلافية الشاملة والقومية الروسية العرقية، ومن بين هؤلاء المفكرين ظهر عالم اللغة نيكولاي تروبيتسكوي، وعالم الأعراق بيوتر سافيتسكي.
يعد كتاب “الخروج إلى الشرق”، وكتاب “الأوراسية: تجربة التفسير المنهجي” أهم أعمال تروبيتسكوي. تبدأ رؤية تروبيتسكوي الحضارية باعتبار الدين هو “أساس الأيديولوجية”، وهو “خالق الثقافة وراسم معالمها”. وروسيا عند تروبيتسكوي هي جوهر أوراسيا، والمسيحية الأرثوذكسية هي جوهر روسيا؛ ومن ثم، فإن المسيحية الأرثوذكسية الروسية تشكل جوهر المشروع الأوراسي.
إن الأرثوذكسية هي “الأساس” لـ”طريقة الحياة” في روسيا، و”موقفها المحدد تجاه الطبيعة والعالم”، بل هي مصدر “فكرة تحويل العالم”. يرى تروبيتسكوي أن الأرثوذكسية هي حجر الأساس لأيديولوجية أوراسية أوسع نطاقًا، شريطة أن تُعدَّل وتُستكمَل بالفكر الديني من الديانات الآسيوية: الإسلام، والكونفوشيوسية، والبوذية، والهندوسية. وهذه الديانات، وخاصة البوذية، لها صلة وثيقة بـ”التأمل الصوفي” الأرثوذكسي، الذي “يبتعد” كثيرًا عن البروتستانتية المسيحية، ويبتعد أكثر عن المسيحية الكاثوليكية.
كان تروبيتسكوي من كبار المؤيدين للجامعة السلافية، أو ما يسمى “محبة السلاف” (سلافوفيليا)، ووجّه نقدًا إلى إصلاحات بطرس الأكبر ذات النزعة الأوروبية، ورأى فيها انحرافًا عن الجذور الأرثوذكسية الشرقية الحقيقية لـ”روسيا الأوراسية “. يرى تروبيتسكوي أيضًا أن روسيا الإمبراطورية انحرفت أيضًا عن مصيرها الأوراسي الآسيوي بسبب العداء الذي وقع بينها وبين الخانات الإسلامية (قازان، وأستراخان، وشبه جزيرة القرم)، ذلك العداء الذي تكون بسبب الحروب المهلكة الشرسة التي شنتتها روسيا على هذه الخانات، وكان من الممكن أن تكون هذه الخانات حليفًا قويًّا عبر التاريخ يقف إلى جانب روسيا في موقفها العدائي ضد أوروبا.
في نظر تروبيتسكوي، أدى هذا الازدواج في كل من “النزعة الأوروبية”، والعداء مع الخانات الإسلامية، إلى الانقسام بين التيارات الفكرية التي تبلورت في روسيا في مطلع القرن العشرين، وخاصة مؤيدي الغرب، ومؤيدي السلاف، ومؤيدي الثورة الاشتراكية ذات الجذور الغربية.
يمكن القول إن الأوراسيين كانوا أقرب عرقيًّا إلى أسلاف التتار، أي البلغار في حوض الفولغا، ممن كان بوسعهم صياغة توليفة مع هذا العمق الآسيوي. كانت الثقافة الروسية لديهم هي ثقافتهم “الأورو-آسيوية”.
على المستوى النفسي وهوية الفرد، يرى تروبيتسكوي أن “التركيبة النفسية”، أو الشخصية الوطنية الأوراسية، على النقيض من الأوروبية، تميل نحو “الوعي بحدود الحياة الاجتماعية والسياسية وارتباطها بالطبيعة”؛ لأن في هذه الهوية قيمة أعلى ومصدرًا أكثر صدقًا للسعادة.
ويرى أيضًا أن الفكر الأوراسي يقوم على “الامتداد القاري” لأوراسيا، و”الاتساع الروسي [للروح]”، والوعي بـ”شرطية أشكالها الراسخة تاريخيًّا”، و”التعريف الذاتي القاري في حدودها”.
وفق هذه الرؤية، فإن التركيب الأوراسي متجذر في “الثقة بالنفس التي لا يمكن تدميرها”، و”غريزة بدوية قديمة”، وليس أشكالًا خارجية مستوردة من أوروبا.
يولي تروبيتسكوي عناية بالتقاليد المتوافرة لدى الشعوب التوركية والفارسية، لكنه “يكره حدودها الاستبدادية”.
ويزعم تروبيتسكوي أن السيمفونية الروسية الأوراسية (الوحدة العضوية) والروحانية الجماعية (ذات التفوق العرقي الفائق) تشكل الأساس “للوحدة الحقيقية” لأوراسيا، على النقيض من وهم الوحدة الأوروبية.
ويجد تروبيتسكوي سوابق للوحدة الأوراسية في إمبراطورية جنكيز خان المغولية، التي فرضت “المهمة التاريخية” المتمثلة في توحيد أوراسيا سياسيًّا، وأرست الأساس لنظام سياسي. ومن وجهة نظره فقد ورثت موسكو هذه المهمة و”الإرث الثقافي السياسي” للمغول.
وفي النظام الإمبراطوري ما بعد بطرس الأكبر، تُرِكَت “الفكرة الروسية الأوراسية” خاملة ومشوهة. وفي كتاباته بينما كانت التجربة الشيوعية السوفيتية تكتسب زخمًا، كان تروبيتسكوي يعتقد أن “روسيا الأوراسية” سوف تنجو من “التجارب الإجرامية” التي أجراها بطرس الأكبر، ومختلف “الأوروبيين المتطرفين” الذين توالوا على حكم البلاد.
وفي نهاية المطاف، أظهر تروبيتسكوي الانقسام نفسه الذي ابتلي به الفكر الروسي منذ بطرس الأكبر، فقد أوصى بنظام سياسي لأوراسيا يقوم على السوفيتات الأصلية، وصفه بأنه الخيار الوحيد لقيام نظام فيدرالي ديمقراطي قطعًا للطريق على عودة النظام الملكي وتجدده. ومن أسف أن التطبيق السوفيتي للنظام البلشفي الاستبدادي دمر هذه التوصية.
يرى مؤلف كتابنا أن بيوتر سافيتسكي هو المفكر الأكثر تطورًا في الأوراسية المبكرة. وسافيتسكي عالم إثنوغرافيا، يرى أن أوراسيا تمتلك وحدة عضوية خلقتها التفاعلات بين إملاءات تضاريس السهوب، والمدخلات الثقافية والحضارية من جميع مجموعاتها العرقية -الروس، والمغول، والبلغار (أسلاف التتار)، والشعوب التركية الأخرى.
على الصعيد الأيديولوجي، كان من المقرر أن تحل أيديولوجية “أوراسية” قائمة على الأرثوذكسية الروسية” محل الماركسية اللينينية، وأن تحل دِكتاتورية الحزب الشيوعي محل دكتاتورية الحزب الأوراسيوي.
اقترح سافيتسكي إنشاء جمعية لشعوب أوراسيا تحصل فيها كل مجموعة عرقية على تمثيل يناسب “قدرتها الثقافية”. وكانت رؤية سافيتسكي تحتوي على عناصر من التمييز والشمولية، ولكنه قدمها بديلًا للشيوعية والفاشية.
في عام 1945، قبض الجيش الأحمر على سافيتسكي في براغ، وأرسله إلى معسكر عمل، حيث التقى بالمؤرخ الشاب ليف غوميليف، نجل الشاعرين الشهيرين في بطرسبورغ (لينينغراد) نيكولاي غوميليف وآنا أخماتوفا، وأصبح غوميليف تلميذ سافيتسكي، وأعيد تأهيل كليهما في عام 1956 كجزء من سياسات إزالة آثار الستالينية التي انتهجها نيكيتا خروشوف.
عاد سافيتسكي إلى براغ، وتوفي هناك في عام 1968. أخذ غوميلوف عصا الأوراسية من سافيتسكي، ونشر الفكرة بين بعض النخبة السوفيتية، مع مرحبين بالفكرة في مناصب مرموقة، مثل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، ووزارة الخارجية السوفيتية، وهيئة الأركان العامة.
خلال فترة البيريسترويكا، حظيت أعمال غوميلوف بإحياء بين الجمهور، مع طبع كميات كبيرة من كتبه وأعماله الكاملة، وجزء كبير منها متاح في المكتبات الروسية.
طبّق غوميلوف المعرفة التفصيلية لتاريخ أوراسيا والإثنوغرافيا لدراسة أوراسيا بوصفها كيانًا أو حضارة متكاملة، ونشر الفكرة الأوراسية.
عند غوميليف، لا المكان ولا الزمان ولا الجغرافيا هي التي تحرك مسار التاريخ في المقام الأول.
يرى غوميليف أن الجغرافيا والمشاهد الطبيعية كانت على درجة كبيرة من الأهمية في صياغة هذه الهوية.
أما من الناحية التاريخية، فإن أوروبا ذات العمران المستقر منفصلة جذريًّا عن هوية أوراسيا البدوية ذات الثقافة المرتحلة، التي تحددها الحياة على السهوب.
لكن الفكرة الأهم عند غوميليف هي ما أسماه المجموعات العرقية، أو الجنسيات. وفي ذلك يقول:
“إن [التاريخ] يُخْلَق في إطار الجماعات العرقية (الجنسيات أو “الأعراق”) التي تتفاعل بعضها مع بعض، ليس فقط من خلال حساب واعٍ؛ ولكن من خلال شعور بالتكامل؛ أي شعور في اللا وعي بالتعاطف المتبادل والقواسم المشتركة بين الناس، يحدد التباين بين “نحن” و”هم”، والانقسام بين “نحن” و”الآخرين”.
أضاف غوميليف كثيرًا من الأفكار إلى أطروحته الإثنوغرافية من خلال كتابات صوفية عن أفكار “المجال العقلي”، و”الأعراق”، أو المجموعة العرقية بوصفها كيانًا حيويًّا كونيًّا، وهي البذور الأولى والأفكار الأساسية التي سنعرفها لاحقًا في أفكار ألكسندر دوغين.
يرى غوميليف أن كل عرق هو كائن حي يجتاز دورة حياة شبيهة بالإنسان، ويبلغ ذروته في منتصف العمر في اندفاع من الطاقة الإبداعية التنموية -“العاطفة”.
في فترة الذروة للأمة، تكون العاطفة “محرك” التكوين الثقافي. ويرى غوميليف أن “قيادة الطريق” الخاصة بهذه الأمة تتمثل في “تقاليدها العرقية” المستمدة من الشخصية العرقية والثقافة المادية التي تطورت استجابة للمساحة التي تشغلها أمة بعينها.
عند غوميليف، كانت فكرة أوراسيا بوصفها حضارة منفصلة تستند جزئيًا إلى فكرة مفادها أن المجموعات العرقية ذات السمات الثقافية المتشابهة يمكن أن تشكل مجموعة عرقية فائقة، أي ترتقي إلى مستوى “الحضارة”.
في أعماله الأكثر واقعية، سعى غوميليف إلى إظهار قدرة العرق الروسي على التفاعل والاختلاط والتشبيك ثقافيًّا وإثنيًّا مع المجموعات العرقية الأخرى في أوراسيا بوصفها العنصر الأساسي في “التكوين العرقي” للحضارة الأوراسية.
يرى غوميليف أن الروس جلبوا العقيدة الأرثوذكسية من بيزنطة في البحر المتوسط إلى وديان التضاريس الطبيعية لأوراسيا حيث أنظمة الأنهار في روسيا الأوروبية وسيبيريا. كما أن موسكو وصلت إلى مرحلة الشغف الخلاَّق في القرنين الثالث عشر والخامس عشر، وفيها تميزت روسيا بإستراتيجية “تجميع الأراضي ” منذ عهد إيفان الثالث في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر.
ويرى غوميليف أن التوسع الذي شهدته موسكو غربًا وجنوبًا وشرقًا في الفترة من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين يعد دليلًا على حماستها الشديدة وشغفها الخلاَّق.
يعترف غوميليف بأن روسيا الموسكوفية استعارت من روسيا كييف التقاليد الدينية للأرثوذكسية الشرقية، وهو التقليد الأساسي للحضارة الروسية الأوراسية التي سمحت لروسيا بأن يكون لها “كلمتها في تاريخ أوراسيا”.
لكن غوميلوف، مثله مثل تروبيتسكوي، وجد أن مصدر روسيا الأوراسية في موسكو، وليس كييف روس؛ ومن ثم لم تستمر موسكو في تقاليد كييف كما فعلت سابقًا إمارة نوفغورود، بل إنها دمرت تقاليد كييف الممثلة في التجمع الشعبي (فيتشي)، والحرية، فضلًا عن الصراع الداخلي بين الأمراء.
وبدلًا من ذلك، استبدلت روسيا الموسكوفية بهذه التقاليد قواعد سلوكية أخرى استعارتها من المغول، وفي مقدمة هذه القواعد: نظام الانضباط الصارم، والتسامح العرقي، والتدين العميق.
وهذه الصفات المغولية الثلاث -في نظر غوميلوف- هي السمات الحضارية المميزة لأوراسيا، ولكن في الوقت نفسه، أكد غوميلوف أن كل “عرقية” في أوراسيا -الروس، والمغول، والتتار، والقوميات التركية الأخرى، من بين آخرين- “تركت تأثيرًا قويًّا في مسار التكوين العرقي الشامل للعرقية الفائقة”.
وقد ذهب غوميليف إلى أن هناك ثلاث حضارات ظلت “تقاوم”، أو تؤثر في روسيا وأوراسيا: “أوروبا الكاثوليكية في الغرب، والصين في الشرق الأقصى، والعالم الإسلامي في الجنوب”.
كان غوميليف يرى أن خريطة روسيا في مرحلة الأوراسية لا يمكن أن تضم كل تلك الخريطة الضخمة للحضارات التي تتمثلها؛ إذ ليس في مقدورها إلا أن تضم روسيا الإمبراطورية المتأخرة، والاتحاد السوفييتي تقريبًا، وليس بوسعها أن توحد بين قلب البلاد ومحيطها من الصين إلى أوروبا الوسطى، فقد طورت شعوب أوراسيا “ثقافة سياسية” فريدة من نوعها، و”رؤية لمسارات التنمية وأهدافها”. لقد “بنوا دولة مشتركة انطلاقًا من مبدأ أولوية حقوق كل شعب في أسلوب حياة يحدده هو بنفسه”.
وفي القرن العشرين، رفضت القيادة السوفيتية رؤية غوميليف للأوراسية، وبدأت المبادئ الأوروبية تقودها، في محاولة لجعل الجميع متماثلين، وعلى هذا فقد رفض غوميليوف دمج روسيا في الغرب. ومع أنه أقر بأن دراسة واستعارة بعض عناصر الممارسات الأجنبية والأوروبية أمر صحي، فقد خلص إلى أن “ثمن دمج روسيا في أوروبا الغربية سوف يعني في كل الأحوال الرفض الكامل للتقاليد الأصلية والاستيعاب اللاحق”.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.