رأينا في المقال السابق كيف تطورت مراحل اكتشاف الأراضي الروسية من العصر اليوناني إلى العهد القيصري، ونكمل في هذا المقال القصة حتى منتصف القرن العشرين.
أدّى بطرس الأول (الأكبر) دورًا عظيمًا في تدعيم الوعي والمعرفة بالبيئة الروسية، وتطور الجغرافيا الوطنية، بل إن كلمة “جغرافيا” نفسها دخلت في الاستخدام التعليمي والبحثي في فترة إصلاحات بطرس الأكبر.
وتمثل فترة بطرس الأول تنظيمًا ملحوظًا في البحث الجغرافي الواسع، سواء في القطاع الأوروبي من روسيا، أو في ممتلكاتها الآسيوية، من شواطئ المحيط القطبي الشمالي إلى الحدود الجنوبية، ومن البحر البلطي إلى المحيط الهادئ، وفي عام 1701م اكتمل العمل الذي يحمل عنوان “معالم كتاب سيبريا”، والذي أعده الرحالة الروسي ليميزوف، وكان هذا أول أطلس وطني باقٍ حتى يومنا هذا، وضم هذا الأطلس 23 طريقًا إلى سيبيريا وروسيا شمالي أوروبا، ورسمت هذه الخرائط بناء على المادة العلمية التي جمعها هذا الرحالة الروسي، ولاحقًا أصدر ديميزوف مع ابنه عملين جغرافيين آخرين عن روسيا، هما: “كتاب معالم الأقاليم” (1697- 1711م)، وضم 171 لوحة، والعمل الآخر حمل عنوان: “كتاب صورة الأعمال” (1702م- 1730م)، وضم 116 صفحة.
وبنيت جميع خرائط تلك الفترة دون شبكة إحداثية، والدور الجغرافي الذي أدّته هذه الخرائط مثلته شبكة أخرى عرفت بالشبكة المائية، المرسومة بدقة وتفاصيل عالية، وتنتمي أول أعمال المسح الطبوغرافي في روسيا (الخليج الفنلندي، ونهر الدون) إلى فترة بطرس الأكبر، ففي هذه الفترة بالتحديد بدأ العمل على أسس مساحية للمسح الجغرافي، ولعمل خريطة عامة لروسيا، وكان المشرف على المسح الجيوديسي كيرلوف.
وبأوامر بطرس الأول نُظِّمَت أول بعثة علمية روسية لدراسة جميع ممالك سيبيريا، تحت قيادة عالم بولندي هو دانيال جوتليب ميسير شميدت (1685م- 1735م)، واستمرت هذه البعثة 7 سنوات (1720م- 1727م)، ووضع المشاركون فيها أسس البحث العلمي المخطط لسيبيريا.
وخلال فترة عمل هذه البعثة، اكتُشِفَ كثير من المناطق الحاوية للخامات (مثل الفحم والجرافيت)، مع وصف مواقع مناجم خامات الرصاص والفضة والبحيرات الملحية خلف بحيرة بيكال.
وخلال هذه البعثة أصدر شميدت عملًا مكونًا من 10 مجلدات، حمل عنوان “عرض عام لسيبيريا”، يمكن اعتباره أول دراسة علمية لهذا الإقليم الواسع، وضم هذا العمل عدة خرائط.
وخلال الفترة البطرسية استمر توجه الروس نحو الشرق، وفي السنوات الأخيرة من القرن السابع عشر، كان المسير نحو كمتشتكا قد قام به أطلسوف (1697م- 1699م)، الذي خلّف وراءه وصفًا دقيقًا ومفصلًا عن سمات السكان الأصليين في كمتشتكا.
واستكشف أنتسيفيرف وكوزرميرفسكي، بين عامي (1711 و1713م)، عددًا من جزر أرخبيل كوريل، ومن بين المشاركين في هذه الرحلات البحرية تخرج كثير من الباحثين في التخصصين في بحر أخوتسك وبيريغ أبحروا شمالًا حتى مضيق بيرنغ وجنوبًا حتى اليابان.
كما أمر بطرس الأول أن توجه رحلات جغرافية إلى الأطراف القصوى من الشمال الشرقي؛ رغبة في الوصول إلى طريق شمالي شرقي، ويؤدي إلى الهند والصين، وذلك في البعثة التي حملت اسم “بعثة كمتشتكا الأولى”، تحت قيادة فيتوس بيرنغ وأليكسي تشيركوف (1725م- 1730م)، وقد وضع بطرس الأول بنفسه توجيهاته لهذه البعثة، وكان هدفها الرئيس هو البحث عن ذلك الموضع الذي “تلتقي فيه أوروبا بآسيا”.
وفي هذه البعثة استُكشِفَت أجزاء من الأراضي الروسية، أهمها خليج كرست، وخليج بروفيدينيا، وكانت هذه هي المرة الثانية -بعد مرور مئة عام تقريبًا- بعد الرحلة البحرية التي قام بها ديجنيوف لاكتشاف ذلك الخليج الذي يربط المحيط الهادئ بالمحيط المتجمد الشمالي، أي تأكيد نهائي على وجود ارتباط بين آسيا وأمريكا، وفي طريق العودة استُكشِفَت واحدة من مجموعة جزر يوميدا.
ولعل أكبر حدث علمي كبير في النصف الأول من القرن الثامن عشر، كان “بعثة سيبيريا الثانية” (1733م – 1743م) التي ترأسها فيتوس بيرنغ، ودخلت هذه البعثة تاريخ الكشف الجغرافي الروسي تحت عنوان “البعثة الشمالية العظيمة”، وأحيانًا يطلقون عليها “بعثة سيبيريا المحيط الهادئ”.
وقد تألفت البعثة من عدة حملات، وشارك فيها عدد كبير من المستكشفين، وليس فقط من الروس، وقد شارك فيها 570 فردًا، وكانت مهمة الحملة التي يترأسها بيرنغ وتشيركوف استطلاع سواحل أمريكا الشمالية، واستُكشِفت خلالها مجموعة جزر كاماندير وأليوت.
واستهدفت الحملة التي قادها شانبرغ توقيع جزر كوريل على الخريطة، والتقدم نحو اليابان، وخُصِّصَت 5 حملات لدراسة السواحل الشمالية لروسيا بهدف بحث ورسم خرائط للسواحل الممتدة من أرخانغلسك حتى الطرف الشمالي الشرقي، وإن أمكن حتى كمتشتكا.
تمت جميع هذه الرحلات تحت مظلة أكاديمية العلوم، وحملت أسماء الأماكن في سيبيريا أسماء قادة الرحلات العلمية العظيمة، ومنها أسماء علماء مثل: تشيليوسكين، وبرونتشيشيف، وأوفتسين، ولاسينيوس. أما الحملة الأكاديمية التي ترأسها عالم الطبيعة إيوغان جيورغ غيميلن، والمؤرخ غيرالد وفردريرخ ميللر، فكانت بمنزلة الحملة العلمية الثانية، وعملت في هضبة سيبيريا الوسطى، وفي مقدمات البيكال، وخلف البيكال، ومنطقة ألطاي.
ومن الملاحظات المهمة التي سجلها غيميلن في سيبيريا وصولًا حتى نهر ينسي:
“لم يبد لي أنني هنا في آسيا قبل أن أصل إلى نهر ينسي، فكل مشهد الأرض حتى تلك المنطقة يبدو لي أوروبيًّا، لكن بداية من نهر ينسي، وبالاتجاه شرقًا وجنوبًا وشمالًا، نجد أرضًا ومشهدًا مختلفًا دون أن نعرف تلك القوة التي تتحصل عليها”.
وارتباطًا بهذا، كان غيميلن مستعدًا لاعتبار أن ما وراء ينسي هو بداية جزء خاص من العالم، أي إن نهر ينسي هو الفاصل بين أوروبا وآسيا.
وكان أحد تلامذة بعثة غيميلن (1733م- 1736م) الطالب كراشينينكوف، الذي صار لاحقًا أكاديميًّا، وقاد مستقلًا في عام 1737م بعثة دراسية لكمتشتكا، وقد عبر كمتشتكا 9 مرات، وقام بمجموعة متنوعة من الأبحاث من زاويا مختلفة جغرافية، وجيولوجية، ونباتية، وحيوانية، وتاريخية، وإثنوغرافية، ولغوية، وكان من نتائج تلك الرحلات ظهور كتاب “وصف أرض كمتشتكا”، الذي خرج إلى النور بعيد موته مباشرة.
ويعد كتاب “وصف أرض كمتشتكا” الأفضل في الأدب العلمي العالمي في القرن الثامن عشر، بما قدمه من معلومات عن تلك المنطقة غير المعروفة جيدًا، وصار مصدرًا مهمًّا حتى وقتنا الراهن، وفور صدور الكتاب تلقفته الأيدي، وتُرجِمَ إلى أربع لغات أوروبية، كما أعيدت طباعته عدة مرات في روسيا وخارجها.
في عام 1739م، وضمن كيان أكاديمية العلوم، أُسِّسَ قسم الجغرافيا، وفي عام 1745م أصدر هذا القسم “أطلس الإمبراطورية الروسية” بدقة متوسطة إلى عالية في خرائطه، مع دقة عالية للقسم الأوروبي من روسيا، واستخدم هذا الأطلس -للمرة الأولى- الشبكات الإحداثية.
وكانت الفترة البطرسية قد شهدت نشاط فاسيلي نيكيتين طاطيشيف (1686م- 1750م)، وكان مختصًا بالمناجم والمواد المعدنية، وبصفة خاصة في الأورال، وقد أدت جهوده إلى إنشاء كثير من المصانع والمدن، وهو أحد أوائل الجغرافيين الروس.
ولأنه كان في الأصل مؤرخًا فإليه يعود الفضل في الدعوة إلى ضرورة وصل التاريخ بالجغرافيا، كما طرح ضرورة أن يكون “النص مرافقًا للخريطة”.
وقد أصدر طاطيشيف عددًا من الدراسات عن روسيا وسيبيريا في سنوات (1739 و1744م)، كما أعد موسوعة من الأراضي الروسية، ووافته المنية عند حرف “ك” في أبجدية الموسوعة في عام 1793م، وكانت موسوعته قد ضمت كثيرًا من المعلومات الجغرافية الأساسية (المفاهيم والتعريف).
ويمكن تسمية منتصف القرن الثامن عشر بفترة “تطور الجغرافيا” في روسيا، أخذًا في الحسبان ظهور دور العالم الموسوعي لومونوسف، سواء ما قدمه مباشرة من أعمال، أو ما تركته أفكاره من تأثير فيمن بعده.
وبتكوينه بوصفه عالمًا موسوعيًّا، درس لومونوسف كثيرًا من القضايا المرتبطة بالأسس النظرية للجغرافيا، بما يشمله ذلك من تركيب طبقات الغلاف الغازي، وفكرة وحدة “الغلاف الجليدي” لكوكب الأرض، والمناخات البحرية والقارية، والتغير الدائم وتطور الغلاف الأرضي (قشرة الأرض)، والتأثير المتبادل بين هذه القوى الخارجية والداخلية.
بذل لومونوسف جهدًا كبيرًا لجمع البيانات، وتصحيح وتوثيق أول أطلس أكاديمي لروسيا، وتحت إشرافه رُسمت “الخريطة القطبية”، وبذل مجهودًا كبيرًا في الدراسة المركبة للمحيط المتجمد الشمالي، وقد أصدر بناءً على المواد العلمية التي جمعتها بعثة كمتشتكا أول وصف شامل للمحيط المتجمد الشمالي، وسواحله (1726م)، وفي هذا الوصف يعطي لومونوسف مخططًا دقيقًا لحركة الجليد، وتصنيف الجليد البحري، مع توضيح أصول الجليد المتراكم، وتمكن لومونوسف من تنظيم بعثة قطبية سرية تحت إشراف تشيتشاجوف (ملاح بحري)؛ من أجل تحديد طريق شمالي عبر كمتشتكا، وكان لهذه البعثة قاعدة في جرومانتى (سبتسبرغن).
وبعد أن ترأس في عام 1758م قسم الجغرافيا في أكاديمية العلوم، صار لومونوسف منظمًا لدراسة الجغرافيا في روسيا، والأعمال المساحية (الجيوديسية) والكارتوغرافية.
وبدعم لومونوسف خرجت إلى النور أعمال جغرافية مهمة جدًّا عن كمتشتكا والمنطقة الممتدة من الفولغا حتى طوبول، وأرسى لومونوسف تنظيمًا للبعثات والشروط الواجب توافرها في المتقدمين للقيام بهذه البعثات، وخاصة قدراتهم في الرصد الفلكي، وفهم مقومات البيئات من الناحية الاقتصادية والثقافية، وكان ذلك أحد أهم الإنجازات في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
وللبعثات الأكاديمية المميزة (1768م- 1774م) أهمية للبحث الجغرافي في روسيا، وترتبط من حيث الفكرة والنتيجة بأحداث استثنائية في الوسط العلمي، فقد كتب بيرغ يقول:
“خلال الفترة من عام 1768م إلى عام 1774م تمكنت الأكاديمية من جميع أرجاء ذلك الجزء الجديد من العالم: روسيا”، وخلال هذه البعثات وضعت مهام جديدة لكتابة وصف علمي متكامل عن البيئة، والموارد المعدنية، واقتصادات الأقاليم الكبرى في البلاد، وقد ترأس هذه البعثات علماء مشهورون ذوو خلفيات علمية متنوعة، مثل بالاس، وليبيخن، وغيميلن، (غيميلن الأصغر، قريب غيميلن الأكبر)، وأوزورتشكوفسكي، وزويف، وجيورغي فارك.
ويذكر للعالم بالاس قيامه برحلات كثيرة في سيبيريا وروسيا الأوروبية، وتقديمه كثيرًا من النظريات العلمية، وكان بالاس أول من تطرق إلى مشكلات جديدة من نوعها، مثل أصل تربة التشورنوزيم (التربة السوداء)، وأسباب خلو الإستبس من الغابات، وتذبذب منسوب بحر قزوين، والصلة بين بحر قزوين والبحر الأسود، ومقارنة جبال الأورال وألطاي، وقد كتب عن تأثير القوى الخارجية والباطنية في تكوين الجبال، وفي ختام رحلاته أخرج بالاس عملًا من 5 أجزاء، حمل عنوان “رحلات في مقاطعات مختلفة من الدولة الروسية” (1773م- 1788م).
وفى منتصف القرن الثامن عشر أجريت كثير من الأعمال لإيجاد طريق مائي اصطناعي عبر الأنهار الشمالية لروسيا الأوروبية، ومن أجله كان من الضروري الوقوف على معلومات عن عمق الأنهار والتجمد في مياهها… إلخ، وبناء على هذا الطلب العلمي صدر في عام 1773م كتاب “الهيدرولوجيا الروسية”، وضم كثيرًا من المعلومات عن الأنهار، والبحيرات، وآبار المياه.
وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر، استمر البحث العلمي في الأراضي الروسية، وإن كان الحدث الأبرز في تلك الفترة هو ظهور الرحلات البحرية الروسية حول العالم. وفي عام 1837م بدأت دراسة جزيرة “نوفيازمليا”، وقام بها الأكاديمي بير، الذي كان أول من درس الحياة الحيوانية والنباتية، وسماتها الجيولوجية والجغرافية.
وتمكن بير من ربط الوضع البيولوجي في الجزيرة مع البيئة المحيطة، واعتبر نوفيا نوفيازمليا مركبًا بيئيًّا متكاملًا، ثم بعد ذلك قام بير برحلات استكشافية عملية لأجزاء أخرى امتدت من مورمانسك حتى شبه جزيرة كاريليا في الخليج الفنلندي، وفي الأقليم المحيط بموسكو والفولغا حتى بحر قزوين.
ونسبت إلى اسمه ظاهرات وأفكار درسها في بحر قزوين، مثل التلال التي تحمل اسمه، و”قانون بير” عن أسباب تماثل الوديان النهرية.
وفي عام 1840 نشر عالم الحيوان إيفرسمان الجزء الأول من عمله “التأريخ الطبيعي لإقليم أيبزج”، الذي يمثل -في حقيقة الأمر- دراسة جغرافية متكاملة عن الإستبس، وأشباه الصحراء في إقليم الفولغا الأدنى.
وجديد بالذكر أيضًا أنه في عام 1842م، قام تشيغاتشيف بدراسة إقليم ألطاي، من حيث النبات، والجبال والأنهار، فضلًا عن استكشاف حوض كوزنيتسك، كما درس طبقات الفحم في الإقليم.
وبين عامي 1842م و1845م، وبطلب من أكاديمية العلوم، نُظِّمَت البعثة السيبيرية (برئاسة ميديذورف)، التي كان مطلوبًا منها تحقيق هدفين؛ هما:
1 – دراسة الحياة العضوية في منطقة تايمير.
2 – دراسة الصقيع الدائم.
ثم تابع نيفيليسكى البحث في جنوب الشرق الأقصى، وذلك في عام 1849م، حين عبر مضيق ناسارسكي، مؤكدًا أن سخالين جزيرة كاملة (ورفع فوق الجزء الجنوبي منها العلم الروسي)، وحين عين في عام 1850م مديرًا للبعثة آمور، نظم نيفيليسكى البحث العلمي في منطقة حوض آمور، ورفع هناك العلم الروسي، وفي المجرى الأدنى من نهر آمور، أسس في عام 1850م قلعة “نيكاليفوسك زا آمور”، ووقع مع الصينيين اتفاقات لترسيم الحدود الروسية في الشرق الأقصى، ورفع العلم الروسي فوقها.
واستمر في القرن التاسع عشر البحث العلمي في أطراف الشمال الشرقي لروسيا، وبين عامي 1821 و1823م، نُظمت بعثتان علميتان لدراسة المناطق الحديثة من هذا الإقليم، واكتُشِفَت أراضٍ جديدة خاصة “زمليا أندريفا“، وزمليا نوفوسيبيرسك، وترأس البعثتين أنجو، ومزانغيل، وصار كل منهما بعدها أدميرالًا بحريًّا.
بعد تلك الرحلة سيبدأ دور مهم جدًّا ستؤديه الجمعية الجغرافية الروسية، التي تأسست في بطرسبورغ عام 1845م، وكانت قد تأسست جمعيات مشابهة في كثير من دول العالم، بداية من عشرينيات القرن التاسع عشر (كما في جمعيات باريس، وبرلين، والملكية البريطانية في لندن، وغيرها)، وكانت الجمعية الروسية واحدة من هذه الجمعيات الرائدة، وكان وراء تأسيس الجمعية الجغرافية الروسية علماء وملاحون مشهورين، أمثال ليتكي (الذي ترأس الجمعية لنحو 21 سنة) وبير، ومزانغل، وأرسينوف. وبعد سنوات افتُتحت فروع للجمعية في عدد من المدن الروسية، مثل إركوتسك، وأومسك، وغيرهما.
وقد وضع مؤسسو الجمعية الجغرافية الروسية هدفهم الرئيس في استكشاف أراضي روسيا، ومع ذلك نظمت الجمعية بعثات في بقية العالم (آسيا الوسطى، وغينيا الجديدة، وإيران، والمحيط الهادئ، والقطب الشمالي)، وكانت أهم الأقاليم التي أرسلت إليها الجمعية بعثات هي: الأورال، وألطاي، وبيكال، وسخالين، وكمتشتكا، وتشوكوتك، كما أن مناطق مثل طاجيكستان، وبامير آلاى، وتيان شان، وآرال، وبلخاش، وإيك كول، التي صارت إلى الآن خارج حدود روسيا، كانت في تلك الفترة في جنوب البلاد، وضمن حدودها.
كما كان للجمعية الجغرافية الروسية الفضل الأول في استكشاف آسيا الوسطى أمام الأوروبيين. كما وجهت الجمعية الجغرافية الروسية بعثات علمية إلى سيبيريا والشرق الأقصى بقيادة ماك (1853-1859). ومنذ نهاية القرن الثامن عشر أُسِّسَت جمعيات علمية، مثل “الجمعية الاقتصادية الخيرية”، و”الجمعية الموسكوفية للتجريب البيئي”.
شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر فترة نشاطًا مركزًا في دراسة الأراضي الروسية، خاصة أن هذه الفترة هي نفسها عهد التغيير الكبير في حياة الدولة اجتماعيًّا واقتصاديًّا، وهي نفسها فترة الشخصيات اللامعة في جغرافية روسيا.
ففي عام 1861م أخذت الدولة بمبدأ الإصلاح الزراعي: أي إلغاء الرق الزراعي، وبعد ذلك بدأت دراسة المسائل المحلية، مثل تطوير الصناعة، والاقتصاد الزراعي، والتجارة، وإنشاء الطرق ومدها… إلخ.
وكانت الحاجة إلى الجوانب التطبيقية قد حفزت من جمع معلومات دقيقة عن مختلف جوانب البيئة وسماتها (الخامات المعدنية ، والتضاريس، وإمكانات تنمية الزراعة، وجمع الفراء والأخشاب… إلخ) وقد تطلب كل ذلك تطوير إرسال بعثات علمية متخصصة في مجالات الجيولوجيا، والمناخ، والنبات، والحيوان، والجيومورفولوجيا، وترتب على ذلك تراكم قدر ضخم من البيانات، وتحليلها والخروج منها بالتعميمات والأحكام الشاملة، وعند هذه اللحظة يبدأ التفرع في علم الجغرافيا، وحول نواة العلم المركزية التقت علوم المناخ، والهيدرولوجيا، والجيومورفولوجيا، والأقيانوغرافيا (علم البحار والمحيطات) وعلم التربة، وغيرها، وهذا التشعب لم يحدث في روسيا فقط؛ بل كان سمة العلم في تلك الفترة من الزمن. ومع أنها جمعية أهلية فإن أعضاء مجلس إدارتها انخرطوا في دراسة البيئة، وسكانها، واقتصادها، وهكذا كانت الجمعية الجغرافية الروسية تشارك بنشاط في العمل الجغرافي في تلك الفترة.
ولأكثر من 40 سنة (1873- 1914م) كان الجغرافي الشهير سيميونوف تيان شانسكي رئيسًا للجمعية الجغرافية، وقدم الكثير، ليس فقط في مجال دراسة آسيا الوسطى، بل في تنظيم البعثات العلمية الجغرافية وأنشطتها البحثية لتعريف المجتمع الروسي بجغرافية بلاده، وتحت رئاسة تحريره صدر العمل المتعدد الأجزاء الذي يحمل عنوان “روسيا.. وصف جغرافي شامل لوطننا” (1899- 1914م). ومن بين أولئك الذين كلفهم تيان شانسكي بأعمال علمية، كان هناك علماء بارزون، أهمهم: تشيكانوفسكي، وتشيرسكوف، وكرابوتكين، وفايكوف شاكالافسكي.
تشيكانوفسكي: اهتم بالبحث الجيولوجي في وسط سيبيريا، خاصة في أنهار أليونك وتونغوسك، وفي منطقة إركوتسك، وأجزاء من ياكوتيا، كما اهتم بالمنطقة الحاوية لخامات الفحم في إركوتسك، ويعد أول من وضع أسسًا للدراسة الجيولوجية العلمية لإقليم وسط سيبيريا.
تشيرسكي: قدم الكثير لدراسة بيئة بحيرة بيكال وما حولها، وتوفي خلال قيامه ببعض أبحاثه في حوض نهر كولمي عام 1892م.
كرابوتكين: قام ببعثة علمية للجمعية الجغرافية في البيكال (1864- 1866م)، ودرس فيها منطقة تيان الشرقية، ونهر آمور، وركزت أبحاثه على سيبيريا الشرقية، كما اهتمت أبحاثه بنطاقات التجمد ليس فقط في سيبيريا؛ بل في جزر “نوفيا زمليا”، و”زمليا فرانتس جوزيف”، و”سيفرنيا زمليا”.
تيللو: اهتم بالخريطة التضاريسية للقطاع الأوروبي من روسيا، واستخدمت خريطته أساسًا عند إنشاء شبكات الطرق في هذا القطاع من الأراضي الروسية.
ديكوتشيف: هو أحد أشهر علماء البيئة في روسيا، وكانت اهتماماته البيئية واسعة، وشملت التربة، والجيولوجيا، والجيومورفولوجيا، ويعود إليه الفضل في إرساء دراسات تصنيف التربات حسب أصول نشأتها، وقام بأغلب دراساته في مناطق سهوب روسيا الجنوبية، وفي القوقاز. وكان من أهم أعماله البحثية “التشيرنوزيوم الروسي” (1883م)، وتعامل مع التربة كجسد بيئي، أي مكون بيئي متكامل، يعتمد تكوينه على كثير من العوامل التي هي نفسها عناصر البيئة، وبهذا الشكل وضع أسس علم التربة. وقام خلال الفترة بين عامي 1882 و1895م بثلاث بعثات علمية كبرى لتقييم الأراضي في بيئة الغابات والسهوب، والاستخدامات الاقتصادية المرتبطة بها.
كراسنوف: هو تلميذ دوكوتشيف، وتعلم منه أن البيئة تدرس الكل المتكامل دون فصل بين عناصرها، وكان ضد التخصصات الدقيقة الضيقة، وقدم في أعماله أمثلة، مؤكدًا أن علم الجغرافيا هو في الأساس دراسة “التكامل والتعقد في البيئة”، وكانت أهم المناطق التي درسها كراشنوف: ألطاي، وسهوب قزوين، وغرب القوقاز، وبريمورسك، وسخالين، هذا بالإضافة إلى رحلاته في أرجاء مختلفة من العالم.
فيسوستسكي: قدم دراسات مهمة عن التربة، وسهوب الإستبس، وأسباب خلوها من الغابات، واهتمت دراساته بالتصنيفات النباتية، وبدور الأنشطة البشرية في البيئة، وأكمل بعد 12 سنة الرصد البيئي للتربة، الذي شرع فيه من قبله دوكوتشيف.
تانفيلوف: درس الإستبس، والتندرا، والمستنقعات في القطاع الأوروبي من روسيا.
ماروزوف: مؤسس مدرسة علوم الغابات، وهو الذي اعتبر أن “الغابة ظاهرة جغرافية كاملة”، وهي منظومة بيئية تضم آلاف الخيوط، مرتبطة مع جميع عناصر المركب البيئي.
وقد جلب تطور الرأسمالية في روسيا في نهاية القرن التاسع عشر دعمًا لتنمية مناطق سيبيريا والشرق الأقصى، وفي عام 1891- 1892م بدأ بتشييد طريق السكة الحديدية العظيم (العابر لسيبيريا)، الذي ربط سيبيريا والشرق الأقصى بالمناطق المركزية في روسيا، واستقطب الخط الحديدي الباحثين في الجيولوجيا الذين سهل لهم الخط مزيدًا من الحركة، وعثروا على خامات اقتصادية مهمة، خاصة الفحم، الذي كان حيويًّا في تسيير القطارات. كما أجريت أبحاث جيولوجية للعثور على الذهب، وحققت نجاحًا ملحوظًا.
وبداية من عام 1880 ستبدأ أقسام الجغرافيا بالظهور في الجامعات الروسية، وكان أول الأقسام قد حمل عنوان “الجغرافيا والإثنوغرافيا” في جامعة موسكو، عام 1884م، وبعده وُلد قسم “الجغرافيا والأنثروبولوجيا” في جامعة سانت بطرسبورغ عام 1887م.
وقد أدار قسم الجغرافيا في جامعة موسكو مدة طويلة ديمتري أنوتشن (1843- 1923م)، وتخرج على يديه كثير من علماء الجغرافيا البارزين في روسيا. ومن إسهاماته العلمية دراساته في منابع نهر الفولغا، ويعد رائدًا في علم البحيرات (ليمنولوجيا)، واستمرت في مطلع القرن العشرين الأبحاث والدراسات التي اهتمت بـ”روسيا الآسيوية”.
تميزت هذه الفترة بأعمال واسعة الامتداد، وعلى نحو مخطط، ولأهداف تطبيقية مباشرة، وعمدت إلى التفاصيل والدقة، وأصبحت الدولة بجهودها الضخمة هي الفاعل الأول، وليس الجغرافيين والرحالة، بجهودهم المحدودة.
وكي تدعم الدولة مشروعاتها العلمية الضخمة، أسست في تلك الفترة مؤسسات علمية، أهمها: المعهد الهيدرولوجي (1919م)، ومصلحة الطبوغرافيا والمساحة (1919م)، والمعهد الجيونباتي (1922م)، ومعهد التربة (1925م)، ومعهد الشمال (1925م)، ومصلحة الأرصاد الجوية والمياه (1929م)، وغير ذلك، وفي عام 1918م افتُتح المعهد التعليمي الجغرافي الذي سيتحول في عام 1925م إلى كلية الجغرافيا في جامعة سانت بطرسبورغ الحكومية.
وكانت الدولة تدعو الجغرافيين إلى المشاركة في الخطط الحكومية، وغيرها من المشروعات الحكومية، وفي معهد الجغرافيا بأكاديمية العلوم، شارك الجغرافيون مع غيرهم من علماء الأكاديميات في تخصصات الجيولوجيا، والتربة، والنبات، والحيوان، وغيرها، وتوجهت الأعمال العلمية والاستكشافية إلى مختلف الأراضي الروسية، مع عناية خاصة بالشرق الأقصى وسيبيريا، فضلًا عن حوض المحيط القطبي الشمالي؛ بهدف البحث عن طرق بحرية شمالية، وتأسس لهذا الغرض معهد متخصص، هو معهد القطب الشمالي (الذي سيصبح فيما بعد “معهد القطب الشمالي والقارة القطبية الجنوبية”). كما تأسست عام 1932م الإدارة المركزية للطريق البحري الشمالي، وكان هدفها الرئيس دراسة طرق النقل البحرية والشمالية، والسواحل القريبة منها.
وخلال الفترة من عام 1920م إلى عام 1940م، وُجِّهَت كثير من البعثات العلمية إلى المناطق القطبية، وخاصة الجزر، فضلًا عن الظروف المناخية في تلك المناطق من رياح، وأعاصير، وجليد، وحياة حيوانية.
وشارك الجغرافيون -مع غيرهم من المختصين- في دراسة الموارد المعدنية والاقتصادية في الأراضي البكر بمختلف الأقاليم الروسية، وفي مقدمة تلك الموارد: النفط والغاز، والذهب، والألماس، كما شاركوا في الدراسات العلمية التي أدت إلى تجفيف البحيرات وإنشاء المدن الجديدة، ومد الطرق البرية للسيارات، وغير ذلك من إيجاد حلول للمعضلات التطبيقية التنموية.
ومن أبرز الأسماء الجغرافية في تلك الفترة “ليف سيميونوفتش بيرغ” (1876م- 1950م)، الذي كانت له إسهامات علمية متنوعة بين الجغرافيا الطبيعية، وعلم البحيرات، والمناخ، والتربة، والجيومورفولوجيا، والباليوجغرافيا (القديمة)، وعلوم الحيوان، والجغرافيا التاريخية، والمدهش أنه ترك في كل هذه التخصصات إسهامًا علميًّا ملموسًا، والإسهام الأساسي الذي تركه بيرغ هو في رسم النطاقات الجغرافية، وهو صاحب المقولة الشهيرة -مبكرًا في عام 1913م- إن “الجغرافيا هي علم اللاندشافت” (علم مظاهر سطح الأرض).
ومن العلماء البارزين أيضًا في تلك الفترة أندريه ألكسندرفيتش جريجوريف (1883م- 1968م)، الذي له الفضل في طرح مفهوم “الغلاف الجغرافي” في عام 1932م، حين عرّفه بأنه مادة البحث الجغرافي، ومن خلال هذا المفهوم قدم جريجوريف أبحاثًا كثيرة تناولت مفاهيم العمليات في الجغرافيا الطبيعية، وسار هذا المفهوم عند جريجوريف -على نحو مواز- مع المفهوم الأوروبي عن “الغلاف الحيوي” (البايوسفير).
وفي حقبة ما بعد ستالين تطورت دراسة أقاليم الجغرافيا الطبيعية، ورافقها إنتاج كتب ومجلدات وخرائط حائطية، وأطالس عامة ومتخصصة، وتبلور ذلك في صدور العمل الكبير الشهير “أطلس الاتحاد السوفيتي”.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.