لم تشكل الثورة الإيرانية عام 1979 البنية السياسية الداخلية لإيران فحسب؛ بل شكلت أيضًا السياسة الخارجية للبلاد ضمن إطار المذهب الاثني عشري. وفي هذا السياق، يهدف هذا التقرير إلى دراسة تأثير المذهب الشيعي في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد الثورة. بداية، نوقشت عملية صنع السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية وعناصرها المختلفة في إطار آراء مؤسس الجمهورية المرشد الديني الخميني، ومن ثم نوقش تأثير المذهب الشيعي في السياسة الخارجية الإيرانية، لا سيما في جنوب آسيا؛ للوقوف على تحديد مدى تأثير المذهب الشيعي في السياسة الخارجية لإيران.
منذ الثورة تُحاول إيران أن تصبح قوة إقليمية من خلال خلفيتها التاريخية والثقافية وموقعها الجيوسياسي، وترى نفسها لاعبًا أساسيًّا في سياسة غرب آسيا وجنوبها. وفي إطار نظرية آية الله الخميني “ولاية الفقيه” ظهر منصب المرشد الأعلى، وهو رأس السلطة السياسية والدينية في الجمهورية الإسلامية. ويتمتع المرشد الأعلى، الذي يحدد السياسات العامة للبلاد، بصلاحيات واسعة، مثل إقالة رئيس الجمهورية، وقرار الحرب والسلم، وتعيين قيادة القوات المسلحة والقضاء والصحافة.
ومع أن الرئاسة هي أعلى سلطة بعد المرشد الأعلى، فإن الرئيس ملزم بتنفيذ السياسة الداخلية والخارجية بما لا يتعارض مع المرشد الأعلى. وبما أن المرشد الأعلى يتمتع بسلطة مطلقة في تحديد السياسة العامة للبلاد، فلا يمكن للرئيس أن يكون فاعلًا في السياسة الداخلية والخارجية وحده؛ لذا تؤدي أجهزة أخرى، مثل الحرس الثوري، أدوارًا فعالة في عملية صنع السياسة الخارجية.
رفعت إيران خطابًا تُقدم فيه نفسها حامية للمظلومين لخلق قوة جذب لكل من الدول الإسلامية والدول غير الإسلامية المناهضة للغرب، وتحاول تعزيز علاقاتها الدينية مع العالم الإسلامي باستخدام مؤسسات ومنظمات مساعدة مختلفة. تكشف إيران عن رسالتها الروحية والسياسية في السياسة العالمية من خلال المنظمات شبه الحكومية العاملة في مناطق جغرافية مختلفة من العالم. هذه المهمة، التي وُضعت أسسها في الثمانينات مع محاولات تصدير الثورة، لا تزال مستمرة من خلال أنشطة تطوير البنية التحتية الدبلوماسية والدينية، وخاصة في تلك المناطق التي يوجد بها عدد كبير من السكان الشيعة.
ومع أن عوامل مثل معاداة الغرب، والثقافة الفارسية، والجغرافيا السياسية، والسياسة الواقعية، لها أهمية في عملية صنع السياسة الخارجية لإيران، فإن النشاط الأيديولوجي الديني يظل في المقدمة؛ لذا لا بد من الإشارة إلى آراء آية الله الخميني، المؤسس والمرشد الأعلى الأول لإيران لفهم الأدوات المستخدمة في السياسة الخارجية الإيرانية. لقد جلب فهم الخميني لولاية الفقيه ديناميكية جديدة للمذهب الشيعي في قضايا الدولة والإدارة. أقام علماء الشيعة علاقات جيدة مع الدولة، وشاركوا مشاركة كاملة في الحياة السياسية والاجتماعية خلال العصر الصفوي (1501- 1736)، وبرزت هذه الفترة باعتبارها الفترة التي اكتشف فيها العلماء تأثيرهم في الناس والحكام.
بدأ علماء الشيعة، الذين تصرفوا معتمدين نسبيًّا على الدولة من الصفويين إلى فترة القاجار (1794- 1925) في إيران، بالسيطرة الكاملة على المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية في الفترة نفسها. وفي ضوء الخلفية التاريخية في إيران، طرح الخميني وجهة نظر مفادها أنه لا ينبغي أن يكون هناك فصل بين الدين والحكومة في دولة إسلامية؛ بحجة أن إدارة الدولة الحديثة والحياة الاجتماعية يجب أن تشبه- إلى حد كبير- الإدارة والحياة في صدر الإسلام. ووفقًا لهذا الفهم، يُعتقد أن الحكام الشرعيين حصلوا على قيادتهم مباشرة من النبي محمد عبر الأئمة؛ لذا فإن من سلطتهم اتخاذ القرار والتنفيذ والإشراف على جميع القضايا المهمة في البلاد.
تبنت إيران خطابات راديكالية خلال السنوات الأولى للثورة، لكنها تغيرت في السنوات اللاحقة، وتحولت إلى خطابات وممارسات أصبحت فيها اتجاهات المذهب الشيعي أكثر حسمًا. كما كانت هناك محاولات لتصدير الثورة، معظمها في العقد الأول من الثورة. وفي هذا السياق، في الحرب التي بدأت مع العراق عام 1980، استنفرت إيران الشيعة العراقيين، وحاولت إدخالهم في الحرب إلى جانبهم لنشر الثورة. ومع ذلك، خلال الحرب، “مأسست” طهران فكرة أيديولوجية الثورة من خلال دمجها مع القومية الإيرانية، وقدمت الدعم للحركات الشيعية العاملة في لبنان منذ الثمانينيات، بل أرسلت حرسها الثوري إلى المنطقة، وقد أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية- دون تردد- أنها تدعم هذه السياسات.
يعد الإرث الإمبراطوري إحدى النقاط المرجعية التي تشكل سياسات إيران الإقليمية اليوم. وكان للإمبراطوريتين الأخمينية والصفوية التأثير الأكبر فيما يتعلق بتشكيل هوية الدولة الإيرانية. ويُنظر إلى الصفويين على أنهم دولة نموذجية لجمهورية إيران الإسلامية من حيث انتشار المذهب الشيعي ومأسسته داخل المناطق الخاضعة لهيمنة الإمبراطورية الصفوية. كل هذه الموروثات تمنع إيران من اتباع سياسة قُطرية؛ مما يجعلها ترى أن تدخلها في المواقف التي تراها غير عادلة بما يتماشى مع مصالحها السياسية أمر مشروع، فضلًا عن تقييم هذه التدخلات على أنها إنسانية، أو لمكافحة الإرهاب، أو لمقاومة إسرائيل.
كان للفرس حضور في شبكات التجارة البحرية في جنوب شرق آسيا منذ فجر التاريخ الإسلامي على الأقل. ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن هؤلاء الفرس الأوائل في الأرخبيل الإندونيسي لم يكونوا مسلمين، ووُثِّقَ وجود المسيحيين الشرقيين الفارسيين في وقت مبكر من عام 650، وقيل إن السفن الفارسية كانت تسافر بين لانكا وسريفيجايا في العقد الأول من القرن الثامن عشر. ويبدو أن الاكتشافات الأثرية تسجل وجود “الفرس” المسلمين على الساحل الغربي لتايلاند (جزيرة كاخاو) في القرنين التاسع والعاشر، وكذلك على السواحل الشرقية والغربية لشبه الجزيرة الماليزية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر.
على الرغم من الدلائل على الاتصال بين بلاد فارس وجنوب شرق آسيا في النصف الثاني من الألفية الأولى، فإن هؤلاء التجار والبحارة الفرس لم يشاركوا بنشاط في نشر الإسلام بين السكان المحليين في المنطقة، ويمكن إرجاع الأدلة المادية على تأثير أشكال الإسلام الفارسية المميزة في جنوب آسيا، التي تعود إلى فترة لاحقة- إلى حد ما- إلى أوائل القرن الخامس عشر. وفي مسحهم للآثار الجنائزية من القرن الخامس عشر في باساي، أدرج كلود غيو ولودفيك كالوس ثلاثة شواهد مزخرفة بنقوش باللغة الفارسية، تشير إحداها أيضًا على نحو مباشر إلى آل البيت[1].
ومنذ القرن السادس عشر، كانت جنوب آسيا مُنجذبة بقوة نحو الولاء لآل البيت، مع أنها ظلت سنية مذهبيًّا حتى الانقلاب الصفوي[2]. ويبدو أنه كان هناك تزايد لمستوى التأثير الفارسي على تطور التقاليد الثقافية الإسلامية في جنوب آسيا. ومع ذلك، فإن ندرة مواد المخطوطات الباقية من ذلك الوقت تطرح مشكلات أمام فهم طبيعة هذا “التأثير” ومداه.
لم يكن علماء الشيعة ومثقفوهم في أواخر الفترة الاستعمارية ينظرون إلى أنفسهم بالضرورة على أنهم أقلية داخل شبه القارة الهندية التي يهيمن عليها الهندوس؛ بل على أنهم نخبة روحية في مواجهة السنة. وتحدى الدعاة الباطنيون الشيعة بعد التقسيم ادعاءات العقيدة التي أطلقها العلماء الإصلاحيون في باكستان، وأشاروا إلى أنهم يتبعون الخميني وغيره من الشخصيات الدينية الإيرانية البارزة. وكانت شبه القارة الهندية ملأى بمزارات الأئمة بما لا يقل عن المدن المقدسة في إيران والعراق. وبعيدًا عن رفض الدور الكبير للمرجعية أو قبوله، أعاد شيعة باكستان التفكير في موقفهم بوصفهم وسطاء وسماسرة لهذه السلطة خارج الحدود الوطنية، وسعوا إلى الارتباط بالجمهورية الإسلامية.
وبإجراء مقارنة مختصرة بين تجارب المجتمع الشيعي الباكستاني مع نظرائه الهنود بعد التقسيم، نكتشف أن الشيعة الهنود كانوا أكثر ترددًا في البناء على العلاقات العابرة للحدود الوطنية، وأقل حماسة للتوجه نحو المدن المقدسة في إيران والعراق، وربما يعود هذا جزئيًّا إلى أن الطائفة ورثت بنية تحتية شيعية واسعة النطاق من المدارس والجمعيات حرصت على استقلاليتها قدر الإمكان، وكانت الرموز الشيعية الهندية أكثر ميلًا إلى تقليد آيات الله العراقيين، مثل علي السيستاني بديلًا عن آيات الله الإيرانيين مثل الخميني وخامنئي، وهذا كان نابعًا من التأثر بالفلسفة الهندية التي تتبع نموذج “التعاون المنفصل” مع النظام السياسي “من أجل السلام العام في المجتمع”[3]؛ ما يعني أن خلال القرن الماضي شهد الإسلام الشيعي بعض التحولات الأساسية، أهمها أن الأقليات الشيعية تجاوزت شبه القارة الهندية، وأصبحت أكثر اندماجًا من أي وقت مضى في دوائر الشيعة العابرة للحدود الوطنية. ويبدو أن العنف الطائفي بين السنة والشيعة قد أصبح خط الصدع الرئيس الذي يفرض الوحدة الداخلية، ويدفع شيعة جنوب آسيا إلى التحول إلى فرق مقاتلة على جبهات عدة، لا سيما في غرب آسيا (الشرق الأوسط).
من بين دول جنوب آسيا، استهدفت إيران باكستان باهتمام خاص، لأسباب متعددة، بوصفها الجارة والدولة الإسلامية الوحيدة (السُنية) المسلحة نوويًّا، وكان السكان الشيعة في باكستان قريبين من رجال الدين في إيران حتى قبل الثورة الإسلامية، ولقد عكست كتابات السيد محمد قمر زيدي صورة إيران الثورية في أواخر أبريل (نيسان) 1979، وتركت أثرًا عميقًا في الوعي الشيعي الباكستاني. وكان الزيدي قد نشر سيرة ذاتية للخميني، وانطلق من كراتشي مع وفد يضم ثلاثة من علماء الشيعة. وقد تأثرت المجموعة بمختلف أعمال اللطف والاحترام التي أظهرها الإيرانيون العاديون تجاههم بوصفهم علماء دين. وكان رفاق السفر سعداء لأن العري، والانحلال، وحب الأنشطة غير المشروعة- وهي العلامات التجارية لطهران في عهد الشاه- قد اختفت تقريبًا. ولم يكن كل عالم إيراني قابلوه على دراية سياسية جيدة فحسب؛ بل كان أيضًا ينفذ التزاماته الدينية بجد. وقد رسمت طهران نفسها في مخيلتهم على أنها أرض إسلامية نقية[4].
في عهد الجنرال ضياء الحق، طالب المتطرفون السُنّة بفرض الفقه السني فقط، وتكفير الشيعة، وبدأت الميليشيات السنية بمهاجمة وقتل الشيعة البارزين، الذين ردوا بالتشدد والتقرب مِن إيران. وفي عام 1986، أصدر آية الله الخميني توجيهًا للحكومة الإيرانية لحماية الشيعة في باكستان. نظم الشيعة في باكستان أنفسهم فيما بعد باسم الحركة الجعفرية الباكستانية، وطالبوا بقدر أكبر من الحكم الذاتي لعلماء الدين الشيعة داخل النظام القانوني للبلاد.
أدى اغتيال العلامة الحسيني ومولانا جهانجوي في هجمات منفصلة في عامي 1988 و1990، إلى زرع بذور القتل المستهدف لزعماء آخرين، وظهور العنف الطائفي السني الديوبندي المنظم. وفي عام 2007، أدت موجات العنف الطائفي إلى مقتل مئات الشيعة في بلدة باراتشينار، التي تقع في زاوية نائية غرب باكستان، يطلق عليها بعض الشيعة اسم “إيران الصغيرة”، وغالبية سكان البلدة هم من عرقية البشتون الذين ينتمون إلى المذهب الشيعي. ويمكن أن تُعد باراتشينار “نقطة انطلاق” للنفوذ الإيراني في باكستان، لا سيما مع تورط طهران في دعم الجماعات الشيعية الباكستانية.
استغلت إيران مأساة باراتشينار؛ ففي البداية افتتحت مركزًا ثقافيًّا (خاني فارهانج) في المدينة، وقدمت مساعدات للشيعة هناك، قبل أن يشكل “فيلق القدس”، التابع للحرس الثوري الإيراني، لواء “زينبيون” ليقاتل في سوريا عام 2014، وجند من أبناء البلدة والقرى المحيطة بها ما يتراوح بين (1000 و5000) مقاتل، مشكلًا وحدة هجومية، كما استغلت طهران طرد بعض بلدان الخليج للعمالة الباكستانية الشيعية في عملية التجنيد، بالإضافة إلى تجنيد الطلبة الباكستانيين في “جامعة المصطفى الدولية”، وهي مؤسسة دينية مقرها في قم، ولديها فروع في إسلام آباد وبيروت أيضًا، بالإضافة إلى كثير من المنظمات التابعة لها في أماكن أخرى (على سبيل المثال، “الكلية الإسلامية في لندن”، و”كلية إندونيسيا الإسلامية”، و”جامعة العلوم الإسلامية في غانا”).
ومن أهم المؤسسات الباكستانية التي ترسل الطلبة إلى إيران منظمة “طلاب الإمامية“، التي تأسست عام 1972، وتضم نحو 800 مكتب، وعضوية طلابية تتراوح بين 18000 و20000 عضو من الذكور، و6000 عضو من الإناث. وتتبع المرشد الأعلى لإيران خامنئي، الذي التقى بمجموعة من أعضاء الحركة الباكستانية عام 1989، بعد وقت قصير من توليه منصبه. وترى المنظمة أن مهمتها ودورها في باكستان لا يختلفان عن مهمة حزب الله اللبناني، أو ميليشيا الباسيج الإسلامية الإيرانية. وعلى هذا النحو، فهي تعد نفسها حليفًا إقليميًّا للجمهورية الإسلامية، وطليعة تدافع عن المفهوم الخميني لولاية الفقيه.
يمثل العنف الطائفي بين السنة والشيعة مشكلة دائمة في باكستان؛ لأنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بظاهرة التشدد الديوبندية الأوسع انتشارًا. ولقد أدت الجهات الفاعلة الأجنبية والصراعات الإقليمية- وستستمر- إلى تفاقم التوترات الطائفية في باكستان، لكن الطائفية في باكستان لا تعتمد على التأثيرات الخارجية. لقد أصبحت صناعة راسخة مع رجال الدين الذين تحرضهم أو ترعاهم شريحة واسعة من سماسرة السلطة داخل باكستان. وإلى أن يتم التعامل مع هذه المشكلة على نحو هيكلي، فإن العنف الطائفي بين السنة والشيعة سوف يستمر. ومن غير المرجح أن تشهد باكستان أعمال عنف طائفية على غرار ما حدث في العراق، وهو ما يهدد وجود البلاد، ولكن استمرار إراقة الدماء الطائفية، إلى جانب تعميم مروجي الكراهية الطائفية، من شأنه أن يزيد تطرف العناصر في كل من الطائفتين السنية والشيعية، ويعزز الحضور الإيراني في باكستان.
ترتبط الهند مع إيران بروابط تاريخية، حيث كانت اللغة الفارسية ذات يوم هي اللغة الرسمية في الهند المغولية، ويرى الهنود، حتى بخلاف المسلمين، أن البلدين القديمين مرتبطان بالثقافة. يقدر المجتمع الإيراني بوليوود، في حين يستلهم المخرجون الهنود الإلهام من المخرجين الإيرانيين. كما أن موقع إيران إلى الغرب من باكستان يمكّن الهند من تعزيز العلاقات مع إيران في إستراتيجيتها لاحتواء باكستان. وتتقاسم الهند وإيران المخاوف بشأن التطرف الإسلامي السني، وقد نسّقتا الإستراتيجيات في أفغانستان لإبقاء النفوذ الباكستاني هناك تحت السيطرة.
تعمل إيران مع شركاء على الأرض في الهند، لكن ليس لديها وكلاء، كما هي الحال مع لواء زينبيون الباكستاني. وقد اضطلع رجل الدين الهندي كلب جواد نقوي بدور في تعزيز علاقات الشيعة الهنود مع طهران، من خلال منظمته أنجومان حيدري في نيودلهي، التي أعلنت في ظل الفوضى الإرهابية في سوريا والعراق أنها سجلت آلافًا من الشيعة في الهند للقتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والدفاع عن الأماكن المقدسة لدى الشيعة، مع أنه ليس من الواضح عدد الذين ذهبوا للقتال. على نحو منفصل، تنتشر الدعاية الإيرانية في بعض شوارع وسط كشمير، بما في ذلك اللوحات الإعلانية التي تحمل صورة آية الله الخميني. وتعد الأقلية الشيعية المسلمة في الهند، التي يقدر عددها بـ 40 مليون نسمة، ثاني أكبر تجمع شيعي في أي بلد، بعد إيران، لكن لم يتطور الشيعة الهنود في “أعمال إرهابية عابرة للحدود الوطنية”، مع أن بعض السياسيين الهنود، ومنهم سياسيون من حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، يدعون الهند علنًا إلى الوقوف إلى جانب القوى الشيعية في الشرق الأوسط، لكن الحكومة المركزية، وبعض الحكومات المحلية، أعربت عن قلقها من أن التوترات الطائفية في الشرق الأوسط يمكن أن تتسبب في اندلاع الصراع في الهند بين السنة والشيعة. ومع ذلك، يبدو من غير المرجح أن يحدث هذا، لا سيما أن التدخل المباشر للحرس الثوري الإيراني في الهند يبدو محدودًا.
تظهر العلاقات الإيرانية- الهندية مرونة قواعد السياسة الخارجية الإيرانية، وعدم اعتمادها على المذهبية فقط؛ بل الواقعية أحيانًا، فالهند هي ثالث أكبر مستورد للنفط الإيراني في آسيا، وتوفر لطهران فرصة للهروب من العزلة الدولية، والقوة الاقتصادية والناعمة المتزايدة التي تتمتع بها الهند مفيدة على نحو خاص. وفي المقابل، فإن الإيرانيين على استعداد لدعم رغبة الهند في الاعتراف بها كقوة عظمى، في سياق خلق عالم متعدد الأقطاب يسمح لطهران بالمناورة. كما تعاون البلدان أيضًا في تطوير ميناء تشابهار الإيراني، ليكون طريقًا تجاريَّا بديلًا لأفغانستان غير الساحلية، غير القادرة على التجارة مع الهند بسبب العوائق التي خلقتها باكستان. وحتى مع اقتراب الهند من الولايات المتحدة وإسرائيل، لم تغامر طهران بقطع علاقتها مع نيودلهي.
ربما تكون أفغانستان الدولة الواقعة في جنوب آسيا الأكثر عرضة للنفوذ الإيراني. ومع أن الأقلية الشيعية في أفغانستان تمثل نسبة أصغر من السكان مقارنة بتلك الموجودة في باكستان أو الهند، فإنها مندمجة تمامًا في الإستراتيجية التي تتبناها إيران في التعامل مع كابول. إن ميليشيا “الفاطميون”، وحزب الوحدة السياسي، والسياسيين السنة الناطقين باللغة الفارسية الموالين لإيران، جميعهم مفيدون لخطة الجمهورية الإسلامية لإبراز قوة أكبر في أفغانستان، خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة من ذلك البلد.
يتمتع بديل سليماني، الجنرال إسماعيل قاآني، بخبرة تصل إلى عقدين من الزمن في الإشراف على عمليات فيلق القدس، التابع للحرس الثوري الإيراني، في أفغانستان، وباكستان، وآسيا الوسطى على نطاق أوسع. في الوقت الحاضر، كما هي الحال في العراق، وسوريا، ولبنان، تدعم طهران بعض القوى المحلية الأفغانية للتنافس مع النفوذ الأجنبي، سواء أكان سوفييتيًّا أم سعوديًّا، أم أمريكيًا، وجنّدت مقاتلين من أفغانستان والمنطقة للقيام بعمليات في أماكن أخرى. ورعت إيران ودعمت مجموعة معظمها من الهزارة، وهي أقلية شيعية مهمشة، ومنظمات سياسية متشددة، يشار إليها عادة باسم “ثمانية طهران”، وهي تواصل دعم بعض هذه الجماعات، مثل حزب الوحدة الإسلامي، ولكن ليس كل السياسيين الهزارة حريصين على العمل مع إيران. بالإضافة إلى ذلك، وكما هي الحال مع دوافعها في العمل مع المنظمات الفلسطينية، فقد استفادت إيران من الأهداف المتداخلة مع المنظمات المسلحة السنية الإسلامية في أفغانستان، وقد دعمت تنظيم القاعدة وطالبان بعد عام 2008.
بالإضافة إلى العمل مع المنظمات المحلية، استخدمت إيران أيضًا أفغانستان كقاعدة تجنيد لمختلف المنظمات المسلحة. وفي الأيام الأولى للحرب الإيرانية العراقية، جنّدت إيران مقاتلين من الهزارة الأفغان في لواء أبي ذر للقتال إلى جانب الإيرانيين. وفي الآونة الأخيرة، جنّدت إيران، من خلال مكاتب الحرس الثوري الإيراني- الباسيج في إيران، مقاتلين أفغانيين من هرات وكابول في لواء “فاطميون” للقتال في سوريا، حيث تعرض راتبًا، وجنسية إيرانية مقابل عدة أشهر من القتال.
وتعد إيران أفغانستان جزءًا من مجال نفوذها الطبيعي، لكنها تدرك أن حركة طالبان (السُنية) هي القوة الرئيسة في البلاد، وأن شركاءها التقليديين من الشيعة هم أقلية؛ لذا تتحرك طهران بحذر على رقعة الشطرنج الأفغانية لتحتفظ بعلاقات وثيقة مع الحكومة في كابول؛ لتتمكن من تأمين حدودها، وضمان تدفق المياه في اتجاه مجرى الأنهار المشتركة، ومكافحة المخدرات، والتعامل مع العدد الكبير من اللاجئين الأفغان الذين يقدر عددهم بمليون شخص. وقد قدمت إيران رسميًّا مساعدات بقيمة 500 مليون دولار أمريكي لأفغانستان، في حين أنها أحد الشركاء التجاريين الرئيسين لأفغانستان.
إن السياسة التي تنتهجها إيران في جنوب آسيا تشكل مثالًا واضحًا للخليط من البراغماتية والأيديولوجية (الدينية المذهبية الشيعية)، وتأتي منطقة جنوب آسيا في المرتبة التالية من حيث الأهمية للشرق الأوسط في التسلسل الهرمي للسياسة الخارجية الإيرانية، وأولويات عمليات التأثير. وتحتفظ طهران بعلاقات وثيقة مع الحكومات في المنطقة، بما في ذلك العلاقات العسكرية والاستخباراتية، ولكنها تستخدم أيضًا السكان الشيعة في باكستان والهند وأفغانستان لتكوين قاعدة دعم تهدف بالأساس إلى تدعيم أمن النظام داخليًّا، وتعزيز هامش المناورة، وفك الحصار والعزلة الدولية على المستوى الخارجي بشقيه الإقليمي والعالمي.
كما أن رغبة إيران في امتلاك الأسلحة النووية تجعل باكستان بلدًا ذا أهمية خاصة، وتصور طهران نفسها باعتبارها حامية الأقلية الشيعية في باكستان، وقد شنت حربًا بالوكالة ضد المتطرفين السُنّة، ولقد اخترقت المخابرات الإيرانية باكستان بما يكفي لتكون قادرة على إجراء عمليات مستقلة، مثل شراء أجهزة طرد مركزي باكستانية لتخصيب اليورانيوم من شبكة عبد القدير خان للمواد النووية. وتشعر السلطات الباكستانية بالقلق إزاء النفوذ الإيراني، ولكن يتعين عليها أن تضع في حسبانها حماية سكانها الشيعة، وتحسين أوضاعهم.
والآن، بعد أن جُنِّدَ ودُرِّبَ الآلاف من المقاتلين الشيعة الباكستانيين كجزء من لواء زينبيون التابع لفيلق القدس، التابع للحرس الثوري الإيراني، سيتعين على باكستان أن تحترس من وجود ميليشيات تسيطر عليها إيران على أراضيها. ولا تواجه الهند تهديدًا مماثلًا من إيران، كما أن الشيعة في الهند لم يكونوا حتى الآن متشددين مثل إخوانهم في الدين في باكستان والشرق الأوسط، لكن يتعين على الهند أيضًا أن تنتبه لتأثير الأفكار الثورية المنبثقة من طهران وقم.
أخيرًا، يمكن الإشارة أن السياسة الإيرانية القائمة على صُنع وكلاء محليين، مثل الميليشيات، تشترك جميعها أنها تتم في بلدان فاشلة، أو شبه فاشلة، حيث تهمل الحكومات الأقليات الشيعية، أو تُعرضها لاضطهاد يدفعها إلى اللجوء إلى طهران المستعدة بحماسة لموضع قدم مجاني يزيد نفوذها، وعلى سبيل المثال، بالنظر إلى الخلافات الأذربيجانية- الإيرانية، علمًا بأن الدولتين يجمعهما مذهب شيعي واحد، لكن الأولى حليف إستراتيجي لإسرائيل؛ ما دفع الأخيرة إلى انتهاج سياسة عدائية ضد باكو، ولكنها لم تتمكن من صنع أي قوة عسكرية تدعمها؛ ما يعني أن الاعتماد فقط على المذهب أو الدين في السياسة الدولية هو منهج قصير النظر، وضعيف إستراتيجيًّا، ولا يحقق مكاسب واسعة، وأن التمدد الإيراني هو حالة استثناء سرعان ما يتراجع؛ لأنه مُختنق أيديولوجيًّا، ويحتاج إلى بيئة طائفية ليقوى؛ لذا تحرص طهران على تدعيم علاقاتها مع بعض القوى السُنية ما دون الدولة، مثل حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وحركة الجهاد الإسلامي؛ لكي تقدم تخفيفًا لحدة الطائفية في سياساتها، وهذا قائم على قصور القوى السنية الإقليمية في ملء الفراغ، وأن في كل انسحاب لها تتمدد قوى أخرى في هذا الفراغ، ما يعني أن قوة إيران في التوسع ما هي إلا لضعف الآخرين، وليس لمنطقية مشروعها، أو جاذبيته.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.