في روسيا، لم يكن مفهوم “الدولة القوية” مجرد تأمل نظري؛ بل هو جزء أصيل من هويتها الوطنية والسياسية. الدولة القوية في السياق الروسي ليست مفهومًا جامدًا؛ بل هي تشبه رقصة متواصلة بين الماضي والحاضر، بين الداخل والخارج، وبين الرؤية المحافظة والضرورات العملية، تعكس محاولات روسيا المستمرة للتوفيق بين تراثها التاريخي واحتياجاتها المعاصرة. وبعبارة أكثر دقة، مفهوم “الدولة القوية” في روسيا هو بنية سلطوية متجذرة في التاريخ، ومتشكلة عبر ديناميكيات أيديولوجية وسياسية متشابكة. لم يكن هذا المفهوم وليد نظرية مجردة؛ بل نتاج توازن هش بين مركزية الحكم وضرورات التكيف مع الأزمات المتكررة. تحليل هذا التوازن يسهم في دراسة النموذج الروسي للدولة القوية، ويساعد على استكشاف سيناريوهات مستقبلها.
يرى أندري تسيغانكوف أن هذا النموذج الروسي للدولة القوية يُختزل في ثلاث مراحل محورية أسست الإطار الذي تستند إليه الدولة الروسية الحديثة. تعكس المراحل الثلاث مسار الدولة الروسية بين مركزية صارمة ومحاولات تكيف محدودة. هذا النهج لم يعزز فقط صورة روسيا بوصفها دولة قوية قادرة على فرض النظام؛ بل رسخ أيضًا نموذجًا مركزيًّا يتعامل مع الأزمات من خلال أدوات السلطة التقليدية، وفي الوقت نفسه خلق تحديات مستمرة أمام تحقيق التوازن بين الاستقرار والمرونة السياسية.
المرحلة الأولى: الاستبداد ما قبل السوفيتي
تبنّت روسيا في هذه المرحلة نهجًا صارمًا من المركزية كاستجابة مباشرة لتعقيدات جغرافية وسياسية فرضتها المساحة الشاسعة للإمبراطورية والتهديدات الخارجية المتكررة من قوى كبرى، كالسويد، وفرنسا، والدولة العثمانية. هذا النهج لم يكن مجرد خيار إداري؛ بل كان ضرورة إستراتيجية لضمان السيطرة وتثبيت الاستقرار الداخلي. انعكست هذه الإستراتيجية في سياسات دفاعية مكثفة شملت بناء تحصينات حدودية وفرض عزلة ثقافية واقتصادية تهدف إلى تحصين المجتمع من التأثيرات الخارجية؛ وبذلك تشكلت علاقة عضوية بين الاستبداد السياسي والاستقرار الداخلي، حيث أصبحت المركزية الصارمة أداة محورية لإدارة الأزمات، وتثبيت دعائم النظام.
كشف عهد نيكولاي الثاني عن هشاشة التوازن بين مركزية السلطة وقدرة الدولة على التكيف مع الأزمات. جاء إنشاء مجلس الدوما عام 1905 استجابةً شكلية لضغوط ثورة 1905، لكن الصلاحيات المقيدة والتدخلات الحكومية قوضت استقلاله؛ مما أضعف ثقة الشعب. ترافق ذلك مع استمرار القمع باستخدام الشرطة السرية (أوخرانا)؛ ما عمّق التوترات، وأشعل الاحتجاجات. وبدلًا من احتواء الأزمات، أسهمت الإصلاحات الشكلية والسياسات القمعية في فقدان النظام شرعيته، ممهدة الطريق للثورة البلشفية عام 1917.
المرحلة الثانية: المركزية السوفيتية
شهدت الحقبة السوفيتية تحولًا حادًّا نحو مركزية صارمة، استهدفت تحقيق قفزات اقتصادية وعسكرية كبرى. اعتمد النظام على بيروقراطية محكمة مكّنته من تعبئة الموارد بكفاءة؛ ما عزز مكانته كقوة عظمى. ومع ذلك، جاء هذا النموذج بثمن باهظ؛ فقد أسفرت سياسات التجميع الزراعي القسري عن مجاعة أوكرانيا (الهولودومور)، فيما عمّقت حملات القمع السياسي -كالاعتقالات الجماعية، والنفي إلى معسكرات العمل (الغولاغ) -الاستبداد الداخلي.
ومع أن النظام امتلك بيروقراطية فعالة أتاحت له أدوات سيطرة قوية، فإنها أضعفت القدرة على الابتكار، وكبّلت الاستجابة للتغيرات. ومع حلول الثمانينيات، كشفت إصلاحات غورباتشوف عن اختلالات هيكلية عميقة، أبرزها عدم قدرة الدولة على التوفيق بين طموحاتها العالمية وانغلاقها الداخلي. هذه التناقضات، إلى جانب تصاعد النزعات القومية في الجمهوريات السوفيتية، عجّلت بانهيار الدولة.
المرحلة الثالثة: التكيف ما بعد السوفيتي
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وجدت روسيا نفسها أمام أزمة وجودية تمثلت في انهيار مؤسسات الدولة، وتفكك النظام الاقتصادي والاجتماعي. شهدت حقبة يلتسين حالة من الفوضى المؤسسية، حيث أدى الانفتاح الاقتصادي غير المنظم إلى انهيار اقتصادي واسع النطاق، وانتشر الفساد على نحو ممنهج. سيطر الأوليغارش على الأصول الإستراتيجية؛ مما أضعف سلطة الدولة، وأرسى بيئة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.
مع تولي بوتين السلطة، بدأت مرحلة إعادة البناء على أسس مختلفة. اعتمد بوتين على استعادة مركزية السلطة بوصفها وسيلة لإعادة فرض النظام وتعزيز الاستقرار. استُخدمت الحرب الشيشانية الثانية (1999- 2000) أداةً لإظهار الحزم العسكري، واستعادة السيطرة الفعلية على الأطراف المضطربة. كما أدى تأميم الصناعات الإستراتيجية دورًا محوريًّا في استعادة قبضة الدولة على الاقتصاد؛ ما أسهم في إعادة هيبتها داخليًّا وخارجيًّا، لكن هذا النهج لم يكن دون ثمن. ففي الوقت الذي حققت فيه روسيا مكانة دولية أقوى، أدى التركيز المفرط على المركزية والأمن إلى تآكل مستمر للحريات السياسية. برز هذا التوتر بوضوح خلال احتجاجات (2011- 2012)، حيث كشفت المطالب الشعبية بالإصلاح السياسي عن فجوة بين الخطاب الرسمي بشأن الاستقرار، والواقع الفعلي للقيود المفروضة على المشاركة السياسية.
يعكس هذا النموذج الروسي توجهًا يعتمد على الاستقرار من خلال القوة، لكنه يظل عرضة لهشاشة داخلية ناجمة عن إهمال الإصلاحات البنيوية التي تعزز الشفافية والمساءلة.
تُظهر أبحاث فلاديمير غيليمان وكاثرين ستينر أن النموذج الروسي يتميز بقدرته الاستثنائية على التكيف مع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويعود هذا التكيف إلى الخبرة التاريخية لروسيا في مواجهة الأزمات؛ ما جعل استجابتها مرنة وسريعة، لكن هذا التكيف لا يُنظر إليه كاستجابة عشوائية؛ بل هو إستراتيجية راسخة تقوم على إعادة تركيز السلطة، وتعزيز أدوات السيطرة الأمنية لضمان الاستقرار الداخلي. وقد تجلّت هذه المقاربة في مراحل مفصلية، مثل إعادة الهيكلة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، واستجابة الدولة للأزمات الاقتصادية والسياسية خلال حقبة بوتين.
غير أن هذه المرونة تأتي بتكلفة سياسية واقتصادية. يشير غيليمان وستينر إلى أن هذا النموذج، رغم فعاليته في إدارة الأزمات، يميل إلى الحد من الإصلاحات الهيكلية، ويُضعف إمكانات الابتكار الطويل الأمد. وتعكس هذه الديناميكية توترًا جوهريًّا بين الاستقرار الفوري والاستدامة المؤسسية؛ وهنا يبرز تحذيرهما من أن استمرار اعتماد هذا النهج قد يحول التكيف إلى أداة مؤقتة لإطالة عمر النظام، بدلًا من تأسيس قاعدة صلبة للاستقرار الدائم.
يتقاطع هذا التقييم مع طرح أندري تسيغانكوف، الذي يرى أن مفهوم القوة في النموذج الروسي يقوم أساسًا على التكيف مع الأزمات، بدلًا من الاعتماد على مؤسسات راسخة، أو آليات ديمقراطية مستقرة. فروسيا، وفقًا له، تعتمد على أدوات مرنة لإعادة تشكيل منظومتها السياسية والاقتصادية في كل مرة تواجه فيها تهديدات وجودية؛ مما يجعل قوتها أقرب إلى إستراتيجية البقاء منها إلى الاستقرار المؤسسي.
لكن هذا النهج يفرض على الدولة حالة استنفار دائم، حيث تُدار الأزمات بأسلوب رد الفعل، وليس من خلال إستراتيجيات وقائية مستدامة، وهنا تكمن المفارقة الأساسية: فبينما يمنح هذا النموذج روسيا قدرة على التعامل مع الأزمات المتكررة، فإنه يعوق تحقيق إصلاحات جوهرية تُعزز الاستقرار الطويل الأمد. وبينما يحقق التكيف المرونة الفورية، فإنه يترك أسئلة مفتوحة عن قدرة روسيا على تطوير مؤسسات قادرة على الصمود أمام التغيرات العالمية المتسارعة.
على الرغم من قدرة النموذج الروسي على إدارة الأزمات من خلال أدوات السلطة التقليدية، فإنه يواجه اختلالات بنيوية تهدد استقراره على المدى الطويل، ويتجلى ذلك في الفساد المستشري، وضعف الابتكار، وتآكل الحريات السياسية، وهي عوامل تعمق هشاشته الداخلية. يشير ريتشارد بوردون في كتابه “أزمة الحداثة الروسية” إلى أن هذه التحديات تعكس أزمة بنيوية تمتد إلى العلاقة المتوترة بين النخبة الحاكمة والجمهور. فالنظام -وفقًا لبوردون- يُدار كأداة لخدمة مصالح النخبة بدلًا من تعزيز الشفافية والمساءلة، ما يحول الاستقرار القصير الأمد إلى عقبة أمام بناء مؤسسات قادرة على التكيف مع التحولات العالمية.
يرى بوردون أن غياب طبقة وسطى فاعلة، ومجتمع مدني مستقل، يفاقم هشاشة النظام أمام الأزمات الطويلة الأمد، فبدلًا من الدفع نحو إصلاحات هيكلية تُعزز الابتكار، وتوسع المشاركة السياسية، واصلت الدولة الاعتماد على أدوات السلطة التقليدية؛ مما أدى إلى تآكل الثقة العامة، وأضعف الأسس اللازمة لتنمية مستدامة.
هذا النموذج، الذي يركز على احتواء الأزمات الفورية، يعكس قصورًا إستراتيجيًّا في تطوير بنية مؤسسية تدعم الاستقرار والمرونة على المدى الطويل. وبينما يُظهر النظام قدرة على التعامل مع الصدمات، يظل عاجزًا عن تجاوز الاستجابات التكتيكية نحو حلول تحولية تُعيد تشكيل بنيته الداخلية لمواجهة التحديات المتجددة.
تُبرز ألينا ليدينيفا، في كتابها “هل يمكن لروسيا التحديث؟”، الدور المحوري لما تسميه “السيستيما” كنظام للحكم غير الرسمي في روسيا. يكشف هذا النموذج عن قدرة الدولة على إدارة الأزمات بكفاءة وسرعة من خلال شبكات نفوذ غير رسمية، مما يضمن الاستقرار القصير الأمد. غير أن هذا النهج، القائم على حلول مؤقتة، وإعادة توزيع الموارد، يُبقي الهياكل الأساسية دون إصلاحات جوهرية؛ ما يحدّ قدرة النظام على تحقيق تحديث مستدام.
تعكس الحالة الروسية توازنًا هشًّا بين قيم تقليدية وأدوات حديثة للسلطة، حيث تُحافظ الدولة على مركزية القرار مع توظيف آليات غير رسمية لتعزيز السيطرة. وعلى الرغم من فعالية هذا النموذج في مواجهة الأزمات الطارئة، فإنه يُثير شكوكًا بشأن قابليته للتكيف مع التحولات التكنولوجية والاقتصادية المتسارعة التي يتطلبها النظام العالمي الحالي. يبقى السؤال مطروحًا عمّا إذا كان بإمكان روسيا تجاوز الاعتماد على شبكات النفوذ غير الرسمية لبناء مؤسسات قادرة على الاستدامة والابتكار في بيئة تنافسية متعددة الأقطاب.
الحرب في أوكرانيا، والأزمة التي نجمت عنها، سلطت الضوء على تساؤلات جوهرية عن قدرة النموذج السلطوي، الذي اعتمدته موسكو عقودًا، على الاستمرار في مواجهة التحديات المتزايدة. هل ستتمسك روسيا بالمركزية الصارمة وآليات التكيف السريع التي أثبتت فعاليتها في إدارة الأزمات، أم ستسعى إلى تحديث مؤسسي شامل يمكّنها من مواكبة التحولات العالمية؟
حتى الآن، لم تُظهر روسيا استعدادًا لتبني إصلاحات مؤسسية جذرية تدعم الابتكار، وتُعزز الديمقراطية. وبدلًا من ذلك، واصلت الاعتماد على مركزية القرار، وآليات تكيف سلطوية أثبتت فعاليتها في تحقيق الاستقرار القصير الأمد، لكنها أضعفت قدرة النظام على بناء مؤسسات شفافة وقابلة للمساءلة. هذا النهج، وإن كان عمليًّا في إدارة الأزمات، لا يوفر أساسًا مستدامًا يضمن الاستقرار الطويل الأمد، أو يُحفّز النمو والابتكار.
تعتمد الدولة الروسية اعتمادًا كبيرًا على شبكات غير رسمية من الولاءات الشخصية أداةً للسيطرة السياسية. ومع أن هذه الشبكات توفر أدوات مرنة للتعامل مع الأزمات، فإنها تظل عائقًا أمام إنشاء بنية قانونية ومؤسسية راسخة تدعم الاستقرار المستدام. هذه البنية غير الرسمية تفرض قيودًا على الإصلاحات الهيكلية الضرورية، وتُبقي النظام في حالة استنفار دائم لمواجهة الأزمات بدلًا من الاستثمار في حلول طويلة الأمد. للتغلب على هذه القيود، تحتاج روسيا إلى إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع من خلال تعزيز الحوكمة الرشيدة، وتطوير مؤسسات قائمة على الشفافية والمساءلة. يتطلب هذا الانتقال تقليص الاعتماد على الولاءات الشخصية، وبناء طبقة وسطى قوية، ودعم دور المجتمع المدني كعنصر فاعل في صياغة السياسات.
الافتقار إلى مجتمع مدني مؤثر وطبقة وسطى ديناميكية يجعل النظام الروسي عرضة لتكرار الأزمات. وبدلًا من تبني إصلاحات هيكلية، واصلت الدولة نهج التكيف السريع الذي فشل -رغم نجاحه في احتواء الأزمات مؤقتًا- في إرساء أسس تحول مستدام. هذا التأخير في الإصلاحات الهيكلية يُبقي النظام في دائرة مغلقة من الاستجابة للأزمات بدلًا من استباقها من خلال سياسات تطوير مؤسسية بعيدة المدى.
في ظل التحديات المتزايدة، يُشكّل التحول المؤسسي فرصة حاسمة لإعادة بناء الشرعية الداخلية، وتعزيز قدرة النظام على التعامل مع التحولات العالمية. النجاح في تحقيق هذا التحول يتوقف على استعداد النخب السياسية لتجاوز النمط السلطوي التقليدي، والانتقال نحو نموذج أكثر استدامة، قادر على دعم الاستقرار والابتكار في آنٍ واحد.
مع اقتراب روسيا من مرحلة ما بعد بوتين، تواجه مستقبلًا غامضًا. يمكن النظر في ثلاثة سيناريوهات: (الاستمرار في التكيف السلطوي، أو الانفتاح التدريجي عبر الإصلاح المؤسسي، أو الانحدار السلطوي نتيجة الأزمات المتراكمة).
في هذا السيناريو، تواصل روسيا الاعتماد على مركزية صارمة وآليات حكم غير رسمية لضبط الأزمات، مستفيدة من الأجهزة الأمنية وشبكات الولاءات لتعزيز الاستقرار المؤقت. غير أن هذا النهج، رغم فعاليته على المدى القصير، يستهلك الموارد ويعمّق التوترات الداخلية. يشير ريتشارد ساكوا إلى أن استمرار هذا النموذج قد يتحول إلى عبء استراتيجي مع تصاعد الاحتجاجات والضغوط الاقتصادية. ويرى صموئيل غرين أن الأنظمة السلطوية تميل إلى استغلال الديناميكيات الاجتماعية لتأخير الإصلاحات الهيكلية، مما يحدّ من فرص التغيير الجذري. في السياق نفسه، يحذر ستيفن فيش من أن المركزية المفرطة تضعف المرونة المؤسسية، ما يجعل النظام أقل قدرة على الاستجابة الفعالة للأزمات، ويزيد احتمالات الاضطرابات الداخلية.
يتطلب الانتقال نحو نموذج حكم أكثر استدامة إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، من خلال تقليص الاعتماد على الولاءات الشخصية، وتأسيس إطار قانوني يدعم الشفافية والمساءلة. يبرز دوغلاس نورث أهمية بناء مؤسسات قوية قادرة على فرض القواعد كعامل حاسم في تعزيز الثقة، وتقليص الفساد. ويرى ستيفن هولمز أن نجاح الإصلاحات مرهون بإعادة هيكلة أسس الشرعية السياسية لضمان استقرار طويل الأمد. في هذا السياق، يشدد فلاديسلاف إنوزيمتسيف على ضرورة تبني سياسات اقتصادية مرنة تسهم في استعادة الثقة المجتمعية وترسيخ الاستقرار؛ مما يخلق قاعدة صلبة تدعم الابتكار، وتعزز قدرة الدولة على التكيف مع التحديات المتغيرة.
في هذا السيناريو، تواجه روسيا تصاعدًا في التحديات الداخلية والخارجية، مما يضع شرعية النظام تحت ضغط متزايد، ويعمّق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. يشير لوسيان باي إلى أن الأنظمة السلطوية غالبًا ما تنهار تدريجيًّا عندما تعجز عن بناء هياكل مؤسسية قادرة على الاستجابة للتحولات. ويرى توماس كاراذرز أن الاعتماد المفرط على القمع السياسي دون مرافقة ذلك بإصلاحات اقتصادية جذرية يقوض الاستقرار على المدى الطويل. أما مايكل مان، فيؤكد أن تآكل الشرعية لا يؤدي إلى احتواء الأزمات؛ بل يفاقمها؛ مما يجعل النظام أكثر عرضة للانهيار في مواجهة الضغوط المستمرة.
في النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع النخبة السياسية الروسية التخلي عن الديناميكيات السلطوية والتحول إلى نموذج أكثر استدامة؟
يبقى مستقبل روسيا رهينًا بمدى قدرتها على تجاوز إرث الحكم المركزي التقليدي، وبناء هيكل مؤسسي أكثر مرونة واستجابة للتحولات العالمية المتسارعة. هذا التحول يتطلب إصلاحات جذرية تعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، مع التركيز على تعزيز الشفافية والمساءلة لتثبيت الاستقرار على أسس مستدامة. ومع ذلك، فإن مسار روسيا سيظل محكومًا بقرارات النخبة السياسية، التي تواجه خيارًا حاسمًا بين الاستمرار في النهج السلطوي القائم على التكيف القصير الأمد، أو تبني إصلاحات مؤسسية تعزز الحوكمة الرشيدة. قدرة الدولة على التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية ستحدد ما إذا كانت قادرة على الخروج من دوامة الاستجابة للأزمات، أم أنها ستبقى عالقة في ديناميكيات استنزافية، تهدد استقرارها وموقعها الدولي.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.
المراجع: