في مقال لصحيفة “رسيسكايا غازيتا“، توقعت في العام الماضي: “سلسلة جديدة من الصراعات العالمية؛ لأن التحولات الحاصلة في النظام العالمي سوف تتصاعد“.
لا يحتاج الأمر إلى أن تكون عرافًا لتتوقع ما حدث وسيحدث، كل شيء يبدو منطقيًّا. النظام العالمي، إذا اعتُرِفَ فيه بمصالح الأطراف الفاعلة، يصبح إطار عمل لحل التناقضات، ومنع تفاقمها. بالتأكيد هذه ليست وصفة سحرية، لكنها- بشكل عام- لا تزال تعمل. ومع ذلك، عندما لا يُحافَظ على النظام، أي حين يفقد أولئك الذين شاركوا فيه القدرة على التواصل الفعال، تتحرر الصراعات من قيودها. وما سيحدث بعد ذلك يعتمد على مدى سرعة إنشاء توازن جديد للقوى والمصالح، هذا إن حدث. هذا التوازن لا يتم من خلال اتفاقيات ودية؛ بل من خلال استغلال الفرص لتحقيق أهدافها الخاصة، وغالبًا ما يكون ذلك على حساب القوى والأطراف الأخرى، حتى يأتي الوعي لدى جميع الأطراف المتصارعة، الداخلية أو الخارجية، بضرورة التوقف، وبدء الحوار الجاد بشأن الشكل الجديد للعالم.
الشرق الأوسط (أو إذا شئنا- بشكل أكثر دقة- منطقة غرب آسيا)، مثال واضح على هذه العملية الانتقالية التي تبشر بنهاية النظام القائم، ولكن لا يوجد بعد نظام جديد، وبشكل عام، لا يتوقع تشكيله قريبًا. إن تفجر الصراع في فلسطين، بعد عملية حماس في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ورد الفعل الانتقامي عليها من جانب إسرائيل، التي شنت عملية عسكرية انتقامية كبرى، أصبح نقطة البداية للجولة التالية من إعادة تشكيل النظام العالمي.
من الصعب القول إن المنطقة كانت مستقرة قبل الأحداث الحالية، بل فعليًّا لم تنقطع الاضطرابات فيها قط، والاضطرابات الحالية جذورها تمتد إلى نهاية القرن الماضي (وهي بدورها تواصل السلسلة التي بدأت قبل قرن من الزمان). ومع ذلك، هناك شيء ما في الكوارث الحالية يميزها عن المراحل السابقة، وهو: “عدم وجود قوى دولية مكافئة للطرف الغربي قادرة على التأثير في مسار الأحداث”، في حين حصل اللاعبون المحليون على مساحة أكبر للمناورة.
وفي الأيام الأخيرة، شهدنا تفاقمًا في البحر الأحمر، فالضربات الأمريكية البريطانية على اليمن لم تدمر القدرة القتالية للحوثيين. ويعتقد أن إيران تقف وراء الحوثيين، في حين تعرضت أهداف معادية لطهران للهجوم في سوريا، والعراق، وفي باكستان. تُظهر إيران قدرات عسكرية تقنية متنامية. وفي الوقت نفسه، شنت تركيا هجومًا في العراق وسوريا أيضًا، وتوعدت أنقرة- مرة أخرى- بتوجيه ضربات ساحقة إلى القوات الإرهابية هناك، أي القوات الكردية.
إن المشكلة الكردية، وهي أكبر أمة بدون دولة، ظلت دائمًا حية حتى لا تُنسَى، وقد نُقِلَت إلى مرحلة جديدة من خلال محاولة الولايات المتحدة إعادة هيكلة المنطقة في السنوات الأولى. صحيح أن المرحلة الثانية من عملية إعادة بناء النظام العالمي على أسس جديدة لم تنجح، لكن نتيجة لذلك، أصبح كل شيء أكثر ارتباكًا، والولايات المتحدة ليس لديها برنامج إيجابي واضح. وفي أحسن الأحوال، تسعى سياستها إلى سد الثقوب، وإخماد الحرائق الإقليمية، وفي أسوئها، يبدو أن واشنطن تتظاهر بالنشاط لأسباب تتعلق بالهيبة.
يتميز الوقت الحالي بتزايد ثقة اللاعبين الإقليميين- من إيران، وتركيا، والمملكة العربية السعودية، إلى حزب الله اللبناني والحوثيين- عندما يرون حدود القوات الدولية التي كانت ذات يوم تمارس نفوذًا حاسمًا. حتى إسرائيل، التي تعتبر علاقتها بالولايات المتحدة حاسمة لأمنها، لم تقبل كثيرًا من الطلبات والتوصيات الأمريكية فيما يتعلق بالحرب في غزة. وبشكل أكثر دقة، من الضروري أن نأخذ في الحسبان أن هذه الحملة تسبب توترًا سياسيًّا متزايدًا داخل الولايات المتحدة، ويحل القادة الإسرائيليون مشكلاتهم بالطريقة التي يعتقدون أنها صحيحة.
إن توقعات كل هذه الأحداث ليست مشجعة. ستزداد حالة عدم الاستقرار؛ لأن العوامل التقييدية ذاتية، وتعتمد على كيفية تقييم المشاركين المباشرين في الأحداث للوضع.
ولكن يجدر بنا هنا أن نبدي تحفظًا: “أكد الوضع في المنطقة- بشكل خاص، وبعبارة ملطفة- الفجوة بين الخطابة والعمل”؛ ومن ثم (باستثناء تصرفات الحوثيين اليمنيين) فإن السخط اللفظي ضد إسرائيل لم يؤدِّ إلى أي إجراءات ملموسة من جانب الدول الإسلامية لدعم الفلسطينيين. المثال الأكثر دلالة هو تركيا، حيث تُسمع كل يوم انتقادات رهيبة من فم الرئيس أردوغان، لكن التجارة مع إسرائيل آخذة في النمو. إن الجماعات شبه العسكرية (مثل حزب الله)، التي تحذر- باستمرار- من أن صبرها قد وصل إلى الحد الأقصى، وأنه على وشك الانتهاء، تتصرف بحكمة وحذر شديدين. ومن وقت إلى آخر، تظهر معلومات عن دبلوماسية مكثفة من وراء الكواليس، تهدف إلى منع المخاطر المفرطة. وموضوع التطبيع مع إسرائيل بروح “الاتفاقيات الإبراهيمية” لم يُحذف من جدول الأعمال.
ليس هناك أي معنى للحديث عن أي احتمالات. سيضيف عام 2024 لمسات إضافية إلى الصورة- عسكرية وسياسية، ولكننا- بكل المؤشرات- دخلنا للتو مرحلة طويلة من إعادة تشكيل وبناء، ليس فقط في الشرق الأوسط؛ بل في العالم أجمع.
واصلت الولايات المتحدة وحلفاؤها هجماتها على مواقع إطلاق الصواريخ الحوثية في اليمن، ويعتزم الاتحاد الأوروبي إرسال ثلاث مدمرات أو فرقاطة إلى البحر الأحمر، في إطار مهمة عسكرية. وقالت الخارجية الإيرانية إن طهران لا علاقة لها بالحوثيين، ولا تتحكم في تصرفاتهم. هاجمت قوات الحرس الثوري الإسلامي الإيراني قواعد جماعة جيش العدل الإرهابية في باكستان بالصواريخ والطائرات بدون طيار، وأدانت إسلام آباد- بشدة- الهجمات، ووصفتها بأنها “انتهاك للسيادة”، ودعت الصين إيران وباكستان إلى ضبط النفس، على أمل أن تتمكن الدولتان من تجنب التصعيد. بعد الهجوم الصاروخي الإيراني على أهداف في كردستان العراق، وشمال سوريا، ظهرت معلومات في وسائل الإعلام العربية تفيد بأن الولايات المتحدة بدأت بسحب جنودها من قاعدة “هيمو” العسكرية السورية. لا يزال الوضع الإنساني في قطاع غزة صعبًا، وما زال الجيش الإسرائيلي يواصل مهاجمة أهداف حزب الله في جنوب لبنان.
المصدر: صحيفة رسيسكايا غازيتا
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.