أبحاث ودراسات

قراءة في الدوافع والتحديات

إعادة إعمار غزة في الحسابات التركية


  • 6 نوفمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: edam.org.tr

يشكّل الدور التركي في غزة بعد اتفاق السلام في غزة إحدى القضايا المحورية في ترتيبات اليوم التالي للصراع العربي الإسرائيلي، خاصة في ظل تحول البيئة الإقليمية، وتزايد اعتماد المنظمات الدولية والفاعلين المحليين على شركاء إقليميين يمتلكون خبرة لوجستية وقدرات سياسية قابلة للتوظيف. تركيا التي تبنت خلال العقدين الماضيين مقاربة الدبلوماسية الإنسانية، ووسعت شبكاتها المؤسسية في الشرق الأوسط، تسعى إلى تحويل موقعها من فاعل تضامني إلى طرف مؤثر في مسارات الاستقرار وإعادة الإعمار، غير أن هذا السعي يتوقف على طبيعة الترتيبات الأمنية والإدارية في غزة، ومستوى الانفتاح الأمريكي والإسرائيلي أمام مشاركة تركية، وتنسيقها مع الأطراف العربية المعنية، لا سيما مصر وقطر.

 وفي هذا السياق، تمثل مرحلة ما بعد الاتفاق اختبارًا مباشرًا لقدرة تركيا على ترجمة حضورها الدبلوماسي والإنساني إلى أدوار هيكلية في إعادة الإعمار وإعادة بناء المؤسسات؛ ما يثير ضرورة محاولة فهم كيفية إعادة تشكيل خريطة النفوذ الإقليمي بعد الحرب، وما الدوافع الإستراتيجية والسياسية التي تحرك تركيا للانخراط في ترتيبات ما بعد اتفاق السلام في غزة، وكيف ينسجم ذلك مع توجهات سياستها الخارجية الأوسع في الشرق الأوسط وشرق المتوسط؟ وما حدود القدرات التركية التي تمكّنها من أداء دور فعال في إعادة الإعمار في غزة؟ وكيف ستؤثر مواقف القوى الإقليمية والدولية في شكل الدور التركي في غزة بعد الاتفاق وحجمه؟ وما انعكاسات الدور التركي في غزة على توازنات القوى داخل القطاع، وعلى العلاقات التركية الإسرائيلية والعلاقات التركية الأمريكية، وعلى موقع تركيا الإقليمي في مرحلة ما بعد الحرب؟

تحولات الموقف التركي

تكشف السياسات التركية الأخيرة تجاه غزة انتقالًا من الدور الإغاثي العاجل إلى صياغة مقاربة أكثر مؤسسية لإدارة مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، إذ تطمح أنقرة إلى إعادة تموضعها بوصفها لاعبًا محوريًّا في هندسة ترتيبات ما بعد الحرب، وذلك عبر استضافة اجتماعات إقليمية ودعوة دول عربية وإسلامية للمشاركة في نقاشات أولية حول طبيعة آلية الإعمار، وشكل الإشراف عليها، كما جاء في اجتماع غزة الذي استضافته إسطنبول في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، بمشاركة وزراء خارجية ست دول عربية وإسلامية؛ السعودية وقطر والإمارات والأردن وباكستان وإندونيسيا، لمناقشة تطورات الوضع في غزة، وسبل دعم وقف إطلاق النار، وهو الاجتماع الذي أكد فيه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن حركة حماس مستعدة لتسليم إدارة غزة إلى لجنة مشكلة من الفلسطينيين. وفي هذا السياق تحمل هذه الاجتماعات دلالتين رئيستين؛ الأولى محاولة تركيا فرض معادلة شراكة إسلامية إقليمية تقلل احتكار القوى الدولية مرحلة إعادة الإعمار، والثانية سعي أنقرة إلى الظهور بوصفها وسيطًا قادرًا على جمع دول الخليج ومصر وقطر حول أجندة مشتركة؛ ما يعزز نفوذها السياسي، ويتيح لها دورًا في تحديد شكل الإدارة المدنية والأمنية في غزة مستقبلًا.

كما مثّل تعيين أنقرة شخصية تنفيذية رفيعة مثل محمد غلو أوغلو لتنسيق جهود الإغاثة وإعادة الإعمار، الذي يمتلك خبرة كبيرة في إدارة الكوارث، من خلال قيادته السابقة لهيئة الطوارئ والكوارث (AFAD)، نقطة تحول أساسية في بناء هيكل مركزي لإدارة المساعدات وإعداد بيئة مناسبة لعمليات إعادة الإعمار؛ ما يعكس إدراكًا تركيًّا بأن إدارة الإعمار ليست عملًا إغاثيًّا بقدر ما هي عملية سياسية لوجستية معقدة تحتاج إلى مركز قرار واضح، قادر على التنسيق مع شركاء متعددين، ودمج مؤسسات الدولة التركية ضمن رؤية واحدة.

أما على الصعيد الإنساني واللوجستي، فقد كثفت المؤسسات التركية، وفي مقدمتها الهلال الأحمر التركي، والمنظمات الإغاثية الكبرى، مثل İHH، جهودها الميدانية من خلال إرسال قوافل برية وبحرية، ونقل جزء كبير من المساعدات عبر الأراضي المصرية، وخاصة من خلال تفريغ الشحنات في مواني العريش، ثم نقلها برًّا إلى المعابر، ويعكس هذا المسار اعتماد تركيا المتزايد على التعاون مع القاهرة بوصفه بوابة رئيسة لنجاح أي خطة إعادة إعمار، كما أطلقت المؤسسات التركية خططًا أولية تشمل إنشاء مساكن مؤقتة، وترميم منشآت حيوية، وتشكيل فرق هندسية وطبية تمهيدًا للمرحلة التالية التي تتطلب جهدًا بنيويًّا أكبر.

وفي موازاة ذلك، تسعى أنقرة إلى تأمين تمويل متعدد الأطراف لعمليات الإعمار؛ إدراكًا منها أن حجم الدمار يفوق قدراتها الذاتية، وأن أي خطة ناجحة تتطلب حشد مصادر تمويل خليجية وأوروبية ودولية، وفي هذا السياق جاءت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن بناء تحالف تمويلي للإعمار، وتأسيس صندوق متعدد الدول كإشارة إلى رغبتها في ربط الإعمار بإستراتيجية أوسع تشمل ضبط التوازنات السياسية، وتقليل نفوذ القوى المنافسة كإسرائيل، أو بعض الفاعلين الغربيين، وإظهار تركيا كدولة قادرة على إنتاج حلول عملية، وليس مجرد طرف خطابي في الأزمة.

كما يُلاحظ أن تركيا تبدي استعدادًا للمشاركة في مهام الاستقرار، أو المراقبة المدنية الأمنية في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، وهي خطوة تهدف إلى تعزيز دورها كضامن إقليمي في الترتيبات الأمنية الجديدة، وتأمين وجود مؤسسي يسمح لها بمتابعة مشروعات الإعمار على الأرض، ومنع تهميش دورها لصالح قوى أخرى، وتستند هذه المقاربة إلى قناعة تركية بأن غيابها عن البنية الأمنية سيترك فجوة لصالح أطراف إقليمية منافسة، ما قد يؤدي إلى إضعاف نفوذها في ملف تراه محوريًّا في سياستها الشرق أوسطية.

تسعى أنقرة من خلال هذا النهج إلى انتزاع دور قيادي في مرحلة ما بعد الحرب من خلال بناء آلية عمل مؤسسية للإعمار، وتفعيل بوابات التعاون الإقليمي، وتأمين مصادر تمويل دولية، مع محاولة الحفاظ على نفوذها داخل غزة في مواجهة محاولات تقليص حضورها. ومع أن نجاح هذه الأجندة يتوقف على مدى قدرة أنقرة على المواءمة بين متطلبات الإعمار وحساسية التوازنات الإقليمية، فإن التحركات التي اتخذتها خلال الأسابيع الماضية تشير إلى عزم واضح على أن تكون أحد أهم الفاعلين في إعادة بناء غزة سياسيًّا وإنسانيًّا ولوجستيًّا.

المصالح التركية في غزة

تمثل عملية إعادة إعمار غزة والانخراط التركي المتزايد في مستقبل القضية الفلسطينية محورًا أساسيًّا في السياسة الإقليمية لأنقرة، لا سيما بعد التحولات البنيوية في الشرق الأوسط بعد طوفان الأقصى، فتركيا ترى في ملف غزة ساحة مركبة تتقاطع فيها اعتبارات المحلية والإقليمية والدولية؛ لذا تتحرك أنقرة ضمن مقاربة براغماتية تجمع بين البعد الأخلاقي المرتبط بالهوية والدعم التاريخي للقضية الفلسطينية، ومصالح إستراتيجية تتصل بإعادة تأسيس حضورها في شرق المتوسط، ومن هذا تنكشف أبرز تلك المصالح فيما يلي:

1-تعظيم النفوذ الجيوسياسي: تسعى تركيا إلى تحويل دورها الإنساني إلى منصة نفوذ جيوسياسي تُرسخ موقعها بوصفها وسيطًا إقليميًّا فاعلًا في الملف الفلسطيني من خلال قيادة مبادرات إعادة الإعمار واستضافة لقاءات إقليمية، وتحاول أنقرة إعادة تموضعها الإقليمي في مرحلة ما بعد الحرب؛ ما يمكنها من التأثير في ترتيبات الإدارة والأمن في غزة، لتفادي تهميشها في صياغة هذه الترتيبات من جانب قوى غربية وإقليمية.

2-بناء رأس مال ناعم: الانخراط المكثف في الإغاثة وإعادة الإعمار يعطي تركيا فرصة من نوع وظيفي تتمثل في تعزيز صورة الدولة الراعية للتنمية والحماية من خلال مؤسسات مثل الهلال الأحمر وتيكا والمنظمات الخيرية التركية، وهذا الرصيد يُترجم إلى شرعية أخلاقية واستفادة رمزية في المحافل الدولية، ويقوي رسائل القيادة التركية داخل العالم الإسلامي وخارجه.

3-استمالة الشركاء الإقليميين: ترى تركيا في ملف الإعمار فرصة لجذب شركاء خليجيين وغربيين إلى مشروعات مشتركة تمكّنها من تقاسم مسؤولية التمويل والشرعية العملية، وهذا التكامل مطلوب لخفض العبء المالي والسياسي عن أنقرة، ولمنح مشروعات الإعمار طابعًا متعدد الأطراف يسهّل قبولها دوليًّا.

4-كسب نفوذ سياسـي داخـل غزة: تمنح المنظمات التركية وعلاقاتها التاريخية مع فاعلين محليين -بما في ذلك شبكات التواصل مع قيادات حركة حماس– أنقرة إمكانية نفوذ مؤسسي داخل غزة في مرحلة إعادة الإعمار، فالسيطرة أو المشاركة في مشروعات إعادة الإعمار تسمح لتركيا بتشكيل بنى محلية جديدة، أو دعم شبكات محلية موالية، وهو ما يترجم إلى نفوذ سياسي طويل الأمد داخل المجتمع الفلسطيني.

5-المصالح الاقتصادية: يفتح الإعمار الواسع سوقًا ضخمة لعقود إعادة الإعمار والبنى التحتية على غرار تشييد مساكن ومرافق مياه وكهرباء ومستشفيات ومدارس، حيث تمتلك الشركات التركية العاملة في البناء والمواد واللوجستيات فرصة للحصول على عقود ومشروعات طويلة الأمد؛ ما يخدم مصالح الصناعة الوطنية، ويخلق مصالح اقتصادية مباشرة تشجع الحكومة على تعزيز اقتصادها. بالإضافة إلى ذلك، فإن مشاركة أنقرة في برامج الإعمار تتيح لها توسيع نفوذها الاقتصادي في قطاع إعادة الإعمار الإقليمي في دول مثل لبنان وسوريا.

6-تخفيف الأخطار الأمنية: مشاركة تركيا في إعادة الإعمار، ووجودها في ترتيبات الاستقرار أو مراقبة وقف إطلاق النار، يعد وسيلة لتأمين مصالح أنقرة الإقليمية، وتقليل احتمالات انتقال التوترات عبر الحدود، تُمكنها من التأثير في شروط الأمن المحلي، ومنع ظهور فراغ ميداني يستغله منافسون إقليميون كقطر، ومصر، وإسرائيل.

7-ترسيخ دور تركيا في قيادة العالم الإسلامي: تستفيد أنقرة سياسيًّا من إظهار نفسها مدافعًا عن الشعب الفلسطيني أمام جمهور محلي وإقليمي حساس لهذه القضية، فالانخراط في ملف غزة خاصة بعد اتفاق وقف إطلاق النار يعزز صورة الحكومة داخليًّا كمدافع عن قضايا الأمة الإسلامية، ما يخدم شرعيتها السياسية، ويستثمر المشاعر الشعبية في دعم سياساتها الخارجية، حيث تُستغل المواقف الرسمية والمساعدات الإنسانية داخليًّا لاسترضاء المعارضة، وإظهار فاعلية النظام.

8-تعزيز الدبلوماسية التركية: تسعى أنقرة إلى تحسين موقعها في الدبلوماسية الدولية من خلال أداء دور فعال في الإعمار والمبادرات المتعددة الأطراف، واستغلال ملفات إنسانية لتخفيف الانتقادات الغربية بشأن قضايا أخرى، أو لتأمين دعم في محافل دولية مثل الأمم المتحدة، إذ إن المشاركة المؤثرة في إعادة الإعمار قد تتيح لأنقرة مقايضات دبلوماسية، وتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في القضايا الخلافية.

مستقبل الدور التركي في مرحلة إعادة إعمار غزة

أفضت التهدئة المؤقتة بين إسرائيل وحماس إلى إظهار فرصة دولية لإدارة مرحلة ما بعد الحرب في غزة، وبرزت أنقرة بوصفها لاعبًا طموحًا يريد تحويل نفوذه الدبلوماسي واللوجستي إلى دور مؤسسي في الإعمار والاستقرار، لكن تواجه الطموح التركي في الانخراط في غزة تحديات إقليمية ودولية معقدة، في مقدمتها المعارضة الإسرائيلية المباشرة، حيث عبرت تل أبيب عن رفضها الواضح أي مشاركة تركية لها أبعاد أمنية أو سيادية في غزة، مستندةً إلى تاريخ التوتر وارتباطات أنقرة السابقة مع حماس؛ لذا تصر إسرائيل على منع أي مشاركة عسكرية تركية أو أي دور قد يتيح لأنقرة نفوذًا سياسيًّا دائمًا داخل غزة، كما أظهرت محاولات إسرائيل للضغط على شركائها -خاصة واشنطن- لوضع حدود لمساحة التحرك التركية. هذا الموقف الإسرائيلي يضع سقفًا عمليًّا أمام طبيعة مشاركة أنقرة، ويجعل قبول الدور التركي رهين اتفاقات إضافية تُطمئن تل أبيب؛ ما يدفع إسرائيل إلى استخدام أدوات متعددة لوقف الدور التركي أو تقييده، من خلال أدوات دبلوماسية مباشرة مع واشنطن، أو شروط أمنية على عمليات الاستقرار، وربما محاولة إقصاء أي وجود عسكري/ شبه عسكري لأنقرة، كما أن أي توسع تركي في غزة قد يعيد توتر العلاقات التركية- الإسرائيلية، ويقود إلى سلسلة ردود دبلوماسية وسياسات أمنية تصعّد صعوبة تنفيذ مشروعات إعمار كبيرة بقيادة أنقرة.

فضلًا عن هذا، فإن قراءة مستقبل الدور التركي لا يمكن فصلها عن المنظور الأمريكي، حيث ترى الولايات المتحدة تركيا شريكًا جوهريًّا في المنطقة، إذ تشكل قدرات تركيا اللوجستية وعلاقاتها الإقليمية أداة عملية للحيلولة دون انهيار إنساني سريع في غزة، وللتوسط في خفض التصعيد، فتنسيق أنقرة مع الأردن ومصر وقطر، واستعدادها لقيادة أو الانخراط في آليات إعادة الإعمار، يعكس ميل الولايات المتحدة إلى تبني مقاربة متعددة الشركاء، حيث تُستثمر التحالفات الإقليمية لتركيا لتسهيل وصول المساعدات، وإدارة مراحل انتقالية مؤقتة، وفي هذا الإطار تتباين مواقف واشنطن بين تشجيع الدور التركي كوسيلة تنفيذية ورقابية من جهة، ووضع حدود لمسار مشاركتها، لا سيما فيما يرتبط بالقدرات العسكرية، فالولايات المتحدة تبدو مستعدة لإدماج تركيا بشرط تقييد مهامها ضمن صياغات مدنية وإنسانية قابلة للمساءلة الدولية، فقد تطالب واشنطن بضوابط على آليات التمويل والرقابة والشرعية الدولية لإقصاء أي توظيف محتمل للمساعدات التركية لأغراض عسكرية، كما ستعمل على خلق توازن بين تمكين أنقرة وطمأنة مخاوف حلفائها، مثل إسرائيل والدول الخليجية؛ ولذا فإن مستقبل الدور التركي وفق الرؤية الأمريكية مرهون بوجود آليات شفافة للتمويل والرقابة والتنسيق مع الأمم المتحدة والفاعلين الإقليميين.

وفي مقابل الموقف الأمريكي والإسرائيلي، تتوقف قدرة تركيا على تنفيذ مشروعات إعادة إعمار واسعة النطاق على مستوى متقدم من التنسيق مع القاهرة، وفي غياب تفاهمات فنية وسياسية شفافة مع مصر، قد تتعطل قنوات التوريد والبنى اللوجستية من تفريغ سفن وعبور شاحنات؛ ما يحدّ قدرة أنقرة على تحويل الالتزامات السياسية إلى نتائج ميدانية ملموسة، وهذا التحدي له بعد عملي مباشر على السرعة والجودة والتكلفة التنفيذية لأي خطة إعمار. ومن جهة أخرى، ورغم تصريحات أنقرة، وسعيها إلى جذب تمويل خليجي وأوروبي، تبرز مسألة مركزية ترتبط بمدى توفر تعهدات مالية دقيقة وإجراءات رقابية تُطمئن المانحين الدوليين، فغياب تصميم موحد لصندوق أو آلية تمويلية متعددة الأطراف يعني أن مبادرات أحادية أو ثنائية قد تبقى محدودة الأثر ما لم تُدمج في إطار تمويلي دولي واضح، ما يضع تركيا أمام ضرورة إيجاد تحالفات تمويلية واسعة ومقنعة للمجتمع الدولي.

كما أن نجاح أنقرة في جذب مانحين دوليين مؤثرين رهين أيضًا بقدرتها على تهيئة آليات رقابية وشفافية تُبعد الشبهة عن تحويل مساعدات أو مواد لأغراض عسكرية أو سياسية، خاصة في ظل الارتباطات التاريخية لبعض المنظمات التركية مع الفصائل الفلسطينية التي قد تُستخدم ذريعةً من الدول الرافضة للوجود التركي لعرقلة تمويل أو مشاركة تركية أكبر، فثمة سباق خفي بين القاهرة وأنقرة وقطر والسعودية والإمارات على تحديد نموذج الإدارة والسياسات في غزة بعد الحرب؛ لذا فإن نجاح أي مبادرة تركية يعتمد على مدى توافقها أو تصادمها مع مخططات مصرية/ عربية قائمة، وفي حالة تصاعد التنافس، قد يؤدي ذلك إلى تعقيد أدوار التنفيذ وتقسيم المسؤوليات؛ ما يضعف فاعلية المشروعات، ويطيل آجال الإعمار.

محصلة القول هي أن مستقبل الدور التركي في غزة بعد اتفاق السلام سيكون اختبارًا معمقًا لطموحات السياسة الخارجية التركية، والقدرة على تحويل الخطاب الإنساني والإغاثي إلى نفوذ مستدام يتوافق مع مصالح الأطراف الدولية؛ ومن ثم تبدو آفاق الدور التركي في غزة واعدة من حيث الإرادة والقدرات المؤسسية المبدئية، لكنها محفوفة بسلسلة من التحديات السياسية واللوجستية والتمويلية والشرعية، المرتبطة بالقيود الإسرائيلية والأمريكية والتوازنات العربية، وهو ما يفرض على تركيا تفاهمًا إقليميًّا دقيقًا، وآليات تمويل متعددة الأطراف شفافة، فضلًا عن ترتيبات رقابية تُطمئن المانحين، وتوافق دولي واضح بشأن طبيعة مهامها، وإدارة داخلية للضغط المالي والسياسي؛ ما يجعل الأشهر المقبلة محورية في كشف ما إذا كانت تركيا قادرة على الانتقال من دور الوسيط والداعم إلى دور الفاعل المؤسسي في إعادة الإعمار الإقليمي، ورسم خريطة النفوذ في المنطقة.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع