أبحاث ودراسات

إسرائيل والولايات المتحدة.. ماذا بعد؟


  • 6 يونيو 2024

شارك الموضوع

 يبدو الترادف السياسي الإسرائيلي الأمريكي لجيلنا وكأنه شيء أبدي، وغير قابل للتراجع أو التغيير، مع أن هذه الظاهرة نشأت في الواقع قبل نحو نصف قرن. منذ تأسيسها، وضعت إسرائيل نفسها جزءًا من الكتلة الغربية، لكن علاقتها مع الولايات المتحدة شهدت صعودًا وهبوطًا خلال العشرين عامًا الأولى بعد عام 1948.

اعتبر الرئيس دوايت أيزنهاور أن إسرائيل شريك لا يمكن التنبؤ به، ولا يمكن السيطرة عليه. في عام 1956، مارست الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفيتي، ضغوطًا على إسرائيل، مما أجبرها على سحب قواتها من شبه جزيرة سيناء. حتى عام 1967، كانت العلاقات مع فرنسا وألمانيا أكثر أهمية لتل أبيب من التحالف مع واشنطن. على سبيل المثال، كان الفرنسيون هم من بنوا مفاعل ديمونة النووي لإسرائيل وسلّحوا جيش الدفاع الإسرائيلي بأسلحة حديثة منذ منتصف الخمسينيات حتى حرب الأيام الستة.

بعد عام 1967، أعربت الولايات المتحدة عن تقديرها للإمكانات العسكرية لإسرائيل، وبدأ دورها حليفًا للولايات المتحدة في التزايد باطّراد. كما تزامنت هذه العملية مع اكتمال تحرير يهود أمريكا، وانتقالها إلى المواقف الصهيونية. وتدريجيًّا، نشأ تحالف عسكري سياسي وثيق بين البلدين، وصل إلى أقصى درجات التكامل خلال رئاسة دونالد ترمب. لعدة عقود، طرح كثير من علماء السياسة السؤال التالي: “هل يهز الذيل الكلب؟”، بجانب سؤال آخر: “أليس النفوذ الإسرائيلي على الولايات المتحدة أكثر تأثيرًا من النفوذ الأمريكي على إسرائيل؟”

أظهر هجوم حماس في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 حدود قوة إسرائيل ونفوذها، وبعد أسابيع قليلة فقط من الهجوم، ظهرت ملاحظات مثيرة للقلق في تقييمات الخبراء الإسرائيليين بشأن مستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة.

من المؤكد أن احتضان الولايات المتحدة لإسرائيل أمر مشجع، ولكنه في الوقت نفسه يظهر ضعف إسرائيل. إن عمق التدخل الأمريكي، وتصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين بشأن استعداد الولايات المتحدة للتدخل في الصراع نيابة عن إسرائيل، قد تشير إلى عدم الثقة بقدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها. إن طبيعة مشاركة الولايات المتحدة، وخاصة كبار مسؤولي الإدارة، ومنهم الرئيس، في صنع القرار الإسرائيلي مثيرة للقلق. ويبدو أن هناك عدم ثقة من جانب الولايات المتحدة في قدرة إسرائيل على الصمود، أو على العكس من ذلك، أنها تخشى من رد فعل إسرائيلي قد يؤدي إلى تصعيد من شأنه أن يعرض المصالح الأمريكية في المنطقة للخطر، ويتحول الدعم الأمريكي إلى نوع من العناق الذي قد يحد من حرية إسرائيل في العمل[1].

لقد أدرك الإسرائيليون أن مصداقية بلادهم في نظر الولايات المتحدة قد انخفضت انخفاضًا حادًا، في وقت كانت فيه تل أبيب بحاجة إلى أقصى قدر من المساعدة، وإطلاق اليد من أجل “الحل النهائي للقضية الفلسطينية”. لقد أصبح مدى اعتماد تل أبيب على المساعدات العسكرية الأمريكية واضحًا، وبدونها لا تستطيع إسرائيل القيام بعمليات عسكرية طويلة الأمد ضد خصومها.

وفي هذا الصدد، بدأ ممثلو المعسكر اليميني الإسرائيلي يعبرون في خطاباتهم عن استمرار سياسة قمع الفلسطينيين ومواجهتهم (وفي المستقبل إيران وحلفاؤها)، حتى على حساب تدهور العلاقات مع واشنطن. وكما كتب خبير من جامعة بار إيلان (هذه المؤسسة التعليمية مرتبطة بالمتطرفين اليمينيين، وكان إيجال عامير، قاتل إسحق رابين من تلاميذها) فقال:

“على الرغم من درجة الحساسية المطلوبة فيما يتعلق بصيانة العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وتطويرها، أعتقد أن عنصر المصلحة الوطنية الإسرائيلية سيكون له وزن زائد في هذه العلاقة، حتى على حساب أزمة دبلوماسية مؤقتة، بما في ذلك التلويح بالعقوبات، وصولًا إلى إمدادات الأسلحة. لكن في نهاية المطاف، إسرائيل ليست محمية أمريكية. وعلى وجه التحديد، وفي سياق حرب غزة، يتعين على إسرائيل أن تتمسك بموقفها عندما يتعلق الأمر بالقضاء على قوة حماس العسكرية، ونزع سلاح قيادة المنظمة في قطاع غزة. وبقدر ما يمكن تحقيق هذه الأهداف العسكرية بأقل قدر من الضرر، ومع وجود خط إمداد إنساني إلى قطاع غزة، فمن المرجح أن تُحيَّد العقوبات الأمريكية. إن تحقيق الأهداف أمر في المتناول، بشرط ثبات الجانب الإسرائيلي، مؤكدا أهمية الوقت، وكلما كان أسرع كان أفضل”[2].

إذا كان من الممكن اعتبار هذه التصريحات في نهاية العام الماضي منطقًا تخمينيًّا، فاعتبارًا من ربيع عام 2024، بدأت الأزمة في العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة في اتخاذ سمات حقيقية. ولم تتمكن الحكومة الإسرائيلية، رغم حصولها على دعم عسكري وسياسي غير مسبوق من الولايات المتحدة، من تدمير حركة حماس، وباءت محاولاتها بالفشل. كما أثارت تصرفات الإسرائيليين بقسوتها إدانات في جميع أنحاء العالم، وفي نظر المجتمع الدولي، تقاسمت واشنطن المسؤولية مع تل أبيب عن الجرائم المرتكبة في قطاع غزة. عشية الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، اضطرت الإدارة الأمريكية إلى البدء بالضغط على إسرائيل من أجل خفض مستوى إراقة الدماء، والبدء بالبحث عن حل سياسي مؤقت على الأقل. وفي المقابل، لم تتمكن الحكومة الإسرائيلية، بسبب ضغوط المتطرفين اليمينيين، والرأي العام المطالب بالانتقام من الفلسطينيين، من تلبية رغبات جو بايدن.

وفي 8 مايو (أيار) 2024، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن: “إن بلاده ستتوقف عن إمداد إسرائيل ببعض أنواع الأسلحة الهجومية إذا هاجمت الأخيرة أهدافًا فلسطينية في رفح”. وكان رد فعل الحكومة الإسرائيلية على هذه الكلمات قاسيًا جدًّا. قال وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير إن الرئيس بايدن “يحب حماس”. وأشار وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، ردا على تصريح الرئيس الأمريكي، إلى أن بلاده “ستحقق أهدافها الأمنية بمهاجمة كل من حماس وحزب الله”. وحتى في وقت سابق، قال بنيامين نتنياهو إنه إذا لزم الأمر “فإن إسرائيل ستتصرف على نحو مستقل، دون النظر إلى الموقف الأمريكي”[3].

في أبريل (نيسان) 2024، أعلنت الولايات المتحدة فرض عقوبات على كتيبة “نيتساح يهودا” التابعة للجيش الإسرائيلي، التي يعمل بها في المقام الأول مستوطنون دينيون يمينيون متطرفون، ومتهمون مرارًا بارتكاب جرائم حرب. ووصف بنيامين نتنياهو الخطوة بأنها “ذروة السخافة والانحطاط الأخلاقي”، وقال الوزير بيني غانتس: “لدينا احترام كبير لأصدقائنا الأمريكيين، لكن فرض عقوبات على الوحدة يشكل سابقة خطيرة، ويرسل إشارة خاطئة إلى تحالفنا المشترك”[4]. في غضون ثلاثة أشهر، تنتقل إسرائيل من منطقة محمية، حيث فشلت فكرة اختبار التزامها بحقوق الإنسان، إلى منطقة مجهولة على وشك أن تتعرض للعقاب بسبب انتهاكاتها المؤكدة لحقوق الإنسان”">[5].

في 11 مايو (أيار) 2024، ذكر تقرير البيت الأبيض المقدم إلى الكونغرس أن الولايات المتحدة “لديها سبب للاعتقاد بأن إسرائيل استخدمت الأسلحة الأمريكية في انتهاك للالتزامات الدولية بحماية المدنيين”. نظرًا إلى اعتماد إسرائيل الكبير على المنتجات الدفاعية المصنعة في الولايات المتحدة، هناك سبب للاعتقاد أن قوات الأمن الإسرائيلية استخدمت المواد الدفاعية منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) بطرق لا تتفق مع التزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي[6].

لدى بعض الدوائر في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل اليوم رغبة قوية في إلقاء كل المسؤولية عن الوضع الحالي على عاتق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شخصيًّا. تجدر الإشارة إلى أن الأخير كانت له في السابق علاقات صعبة مع ساكني المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض. ووصف الرئيس الأمريكي باراك أوباما الزعيم الإسرائيلي بأنه “ذكي وماكر وقوي ومتلاعب موهوب”، وكتب نتنياهو أنه “لم يشعر بالاحترام الواجب من أول زعيم أسود للولايات المتحدة”. أصبحت العلاقات الشخصية الطيبة بين نتنياهو وترمب معروفة على نطاق عريض في جميع أنحاء العالم، لكن مستشاري جو بايدن يريدون الآن جعل نتنياهو كبش فداء.

الحل الجيد لمشكلة العلاقات الإسرائيلية الأمريكية هو إزالة نتنياهو، ووصول منافسيه يائير لابيد وبيني غانتس إلى السلطة، وهذا من شأنه أن يجعل من الممكن تنفيذ سيناريو يعترف باعتماد تل أبيب الكامل على الإرادة السياسية لواشنطن وإشراك إسرائيل في المواجهة العالمية بين الغرب والشرق باعتبارها تابعًا أمريكيًّا غير مشروط. إليكم ما يكتبه خبراء من المعهد الإسرائيلي للديمقراطية عن هذا الموضوع:

“إن الحرب الباردة الجديدة، التي أصبحت ساخنة بالفعل، محفوفة بالفرص والمخاطر لإسرائيل. إن أي صراع عالمي جديد سيتطلب من معظم دول العالم- باستثناء عدد قليل من الدول التي تلتزم بالحياد- أن تنحاز إلى أحد الجانبين”؛ لذا توجد فرصة حقيقية للقيام بصفقة مع المعسكر الديمقراطي، وتقديم خطة سياسية واقتصادية وعسكرية شاملة لمواجهة التهديد الإيراني للإدارة الأمريكية، هذا أو ذاك. إن الصفقة التي ستعرضها إسرائيل على الأمريكيين، ومن الأفضل أن تكون بالشراكة مع المملكة العربية السعودية، ستكون على النحو التالي: “سنتحمل مسؤولية إضعاف محور المقاومة في الشرق الأوسط؛ ومن ثم يمكنكم التركيز على روسيا والصين. وفي المقابل نطلب المساعدة العسكرية والدعم الدبلوماسي”[7].

لكن في الوقت الراهن، تتعطل هذه الصفقة في ظل قيادة بنيامين نتنياهو للحكومة الإسرائيلية. بالإضافة إلى ذلك، لا توجد ضمانات بأن لابيد وغانتس سيتمكنان من إبرام هدنة مع الفلسطينيين، أو الاحتفاظ بالسلطة فترة طويلة. وعلى الرغم من الاستياء الواسع النطاق إزاء الإخفاقات الواضحة التي منيت بها حكومة بنيامين نتنياهو، فإن أغلب الإسرائيليين غير ملتزمين بالسلام مع جيرانهم. ويرى السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل إدوارد جيرجيان أن القيادة الأميركية “فضلت حتى السابع من أكتوبر (تشرين الأول) تجاهل المشكلة الفلسطينية، والآن تحتاج واشنطن إلى صياغة صيغة جديدة لتسوية سياسية تأخذ في الحسبان مصالح الفلسطينيين”[8]. لكن يجدر طرح السؤال: “هل ستقبل الطبقة السياسية الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي، الذي تحول تحولًا حادًّا نحو اليمين خلال الأشهر القليلة الماضية، هذه الصيغة؟”.

إلى جانب العوامل المذكورة أعلاه، تجدر الإشارة إلى أن في الولايات المتحدة دوائر وهياكل ضغط تروج لنهج الدعم غير المشروط لإسرائيل في أي تطور للوضع. في 10 مايو (أيار)، نُشرت رسالة من 80 جنرالًا وأدميرالًا متقاعدًا في الجيش الأمريكي يطالبون فيها بـتحالف أقوى مع إسرائيل. تنص الرسالة جزئيًّا على ما يلي: “على خلفية تصاعد معاداة السامية في أمريكا والعالم، وفي أعقاب أكبر عملية قتل ليهود أبرياء في يوم واحد منذ المحرقة، يجب أن يكون دعم الولايات المتحدة للدولة اليهودية الوحيدة في العالم، واضحًا وثابتًا وغير مشروط. إن فوائد هذه الشراكة للشعب الأمريكي، وهذه المنطقة المهمة كثيرة وقيمة جدًّا بحيث لا يمكن تفويتها”[9]. وتعلق هذه الأوساط آمالا كبيرة على احتمال صعود الرئيس الجمهوري دونالد ترمب إلى السلطة نهاية العام الجاري، والمعروف بصداقته الشخصية مع بنيامين نتنياهو ودعمه غير المشروط لإسرائيل.

وخلاصة القول، يمكننا أن نشير إلى أن العلاقات الإسرائيلية الأمريكية تجد نفسها اليوم على مفترق طرق آخر، ينفتح بعده طريقان:

الطريق الأول، إذا استمرت الاتجاهات اليمينية في السياسة الإسرائيلية في الهيمنة، والتعارض مع مصالح الولايات المتحدة، فقد تكرر إسرائيل في مرحلة ما مسار روديسيا، التي قطع نظامها في أواخر الستينيات العلاقات مع راعيها البريطاني، الذي طالب بإصلاح النظام العنصري.

الطريق الثاني، التخلي عن الذاتية السياسية، والتحول إلى التبعية لواشنطن، على غرار كثير من دول أوروبا الوسطى والشرقية، وهذا سيضمن الدعم السياسي الأمريكي، لكنه لا يعد بحل للمشكلة الفلسطينية، وسيؤدي أيضًا إلى تدهور حاد في علاقات تل أبيب مع موسكو وبكين وكثير من مراكز القوى العالمية الأخرى.

في الختام، أود أيضًا أن أشير إلى جانب آخر مهم. ومع أن الإسرائيليين أمة جديدة ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، بسبب اختلاط المهاجرين الذين يعتنقون اليهودية من مناطق مختلفة من العالم، فإن تاريخ اليهود يعد لهم نموذجًا وقدوة لبناء نظرتهم إلى العالم وثقافتهم.

طوال تاريخ اليهود بكامله، كان موضوع التحالف مع القوة العالمية الرائدة؛ ومن ثم الانفصال الدراماتيكي عنها، يسير مثل الخط الأحمر. انتهت القصة المؤثرة للعلاقة بين يوسف وفرعون بالخروج من مصر. استقبل اليهود الإسكندر الأكبر بحماسة، لكن المكابيين تمردوا على خلفائه السلوقيين. كانت خاتمة التحالف مع روما عبارة عن سلسلة من الحروب اليهودية، وتدمير الهيكل الثاني. وأعقب وعد بلفور والتحالف البريطاني الصهيوني اغتيال اللورد والتر موين، والإرهاب ضد البريطانيين في فلسطين. انتهى التحالف الفرنسي الإسرائيلي بعد حرب الأيام الستة. تشير هذه القائمة برمتها إلى أن العلاقة الأمريكية الإسرائيلية قد تنتهي بطريقة دراماتيكية، من شأنها أن تترك بصمة عميقة في الذاكرة التاريخية للناس.

لكن حتى في هذه الحقبة حدثت تعقيدات وأزمات في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية. وهكذا، عَلّق الرئيس الأمريكي رونالد ريغان- في النصف الأول من الثمانينات- إمداد القوات الإسرائيلية بالذخيرة فترة وجيزة بعد الهجوم على المفاعل النووي في العراق، وجرائم الحرب الإسرائيلية في لبنان.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع