يقول المثل الأمريكي “غير المتوقع يأتي دائمًا”. وما لم تتوقعه ولا تتمناه أوكرانيا والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي هو فوز المرشح الجمهوري دونالد ترمب ونائبه جي دي فانس في الانتخابات الرئاسية القادمة؛ لأن هناك التزامًا واضحًا من ترمب وفانس للناخب الأمريكي بأنهما سوف يوقفان إرسال السلاح والذخيرة إلى أوكرانيا في يوم 20 يناير (كانون الثاني) المقبل، أي في اليوم الأول لهما في البيت الأبيض حال الفوز بانتخابات 5 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
ويبث تقدم ترمب في استطلاعات الرأي الرعب في قلب كييف، خاصة بعد أن كشف الرئيس الأوكراني عن فشل كل محاولاته لإقناع ترمب وأنصاره في الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ بالاستمرار في ضخ الأسلحة والذخيرة إذا فازوا بالانتخابات الرئاسية القادمة، ومن هذه الوسائل التي حاول زيلينسكي التقرب بها من ترمب وتغيير موقفه، اللجوء إلى أصدقاء ترمب المقربين، ومنهم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون الذي سافر خصيصًا للقاء الرئيس السابق دونالد ترمب في منتجعه الخاص بولاية فلوريدا، لكنه عاد بنفس موقف ترمب القائل بأنه لن يرسل السلاح والذخيرة إلى أوكرانيا؛ لأن لديه خطة جدية وواضحة لوقف الحرب الروسية الأوكرانية خلال 24 ساعة فقط.
ولم يعلن ترمب- في أي وقت- موافقته على السماح بضم روسيا للمناطق الخمس؛ وهي شبه جزيرة القرم، ومقاطعات لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزاباروجيا، وهي الاتهامات التي يوجهها الديمقراطيون وهاريس إلى الرئيس ترمب، لكن أوكرانيا ومكتب الرئيس الأوكراني هما اللذان قالا- أكثر من مرة- إنهما لا يفضلان وصول دونالد ترمب وفانس إلى البيت الأبيض؛ لأنهما سوف يتنازلان لروسيا عن المناطق الخمس، لكن المؤكد أن ترمب لدية خطة واضحة وجاهزة، وناقشها مع مستشاريه، هدفها وقف الحرب الروسية الأوكرانية في 24 ساعة؛ لأن ترمب يرى في استمرار الحرب الحالية استنزافًا ليس فقط لأوكرانيا وأوروبا وحلف دول شمال الأطلسي (الناتو)؛ بل للولايات المتحدة الأمريكية نفسها التي أرسلت أسلحة وذخيرة بمليارات الدولارات.
على الجانب الآخر، سوف يكون فوز كامالا هاريس، ونائبها تيم والز، بمنزلة “ولاية ثانية” للرئيس الحالي جو بايدن الذي لم يكتفِ فقط بإرسال كل أنواع السلاح والذخيرة الأمريكية، التي كان آخرها إرسال طائرات “إف 16″، ومنظومات دفاع جوية جديدة من طراز “باتريوت” إلى أوكرانيا؛ بل شكّل بايدن “تحالفًا دوليًّا” يضم نحو 50 دولة، تتقدمها 27 دولة في الاتحاد الأوروبي، و32 دولة في حلف الناتو، بالإضافة إلى دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا؛ بهدف تقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية واللوجستية لأوكرانيا، وهو ما أسهم في إطالة زمن الحرب الروسية الأوكرانية التي سوف تكمل عامها الثالث مع دخول الرئيس الأمريكي الجديد المكتب البيضاوي.
لكن هناك من الديمقراطيين من يشكك في وجود خطة أصلًا لدى دونالد ترمب لوقف الحرب بين موسكو وكييف، فهل لدى ترمب خطوط واضحة وفلسفة مقنعة يمكن أن تقنع الطرفين الروسي والأوكراني بوقف الحرب؟ وهل يعني فوز كامالا هاريس وتيم والز أن الحرب في أوكرانيا سوف تستمر 4 سنوات أخرى؟
لم يسجل لكامالا هاريس أي موقف جديد بشأن أوكرانيا يختلف عن رؤية الرئيس جو بايدن، الذي تقوم على أن إرسال الأسلحة والذخيرة، وتقديم كل أنوع الدعم اللوجستي والاستخباراتي لأوكرانيا، هو “البديل الوحيد لعدم إرسال الجنود الأمريكيين للقتال” في أوكرانيا، والدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا، لكنَّ هناك تخوفًا أوكرانيًّا من ألا تمتلك هاريس التصميم والإرادة أنفسهما اللذين كانا لدى بايدن في دعم أوكرانيا، أو قد تنحني لضغوط الجمهوريين والمشكلات الاقتصادية، وارتفاع معدلات التضخم في البلاد، ويعود هذا الأمر إلى شكوك الأوكرانيين في خبرة هاريس في العلاقات الخارجية، ففي أوكرانيا كانوا ينظرون إلى الرئيس بايدن بأن “خبير” في الشئون الأوكرانية والروسية، بينما كل خبرة كامالا هاريس بعيدة تماماً عن روسيا وأوكرانيا، ولهذا ما تزال رؤية هاريس الخاصة بشأن أوكرانيا غير واضحة بالنسبة للأوكرانيين ، عكس الرئيس بايدن الذي وقف بكل ما يملك، ومارس كل أشكال الضغوط من أجل عدم توقف ارسال المساعدات العسكرية الى أوكرانيا، حيث أرسل إلى أوكرانيا مساعدات عسكرية واقتصادية بنحو 47 مليار دولار في الفترة من فبراير (شباط) 2022 حتى فبراير (شباط) 2024، قبل أن يقر الكونغرس بعد خلافات شديدة مع الجمهوريين 61 مليار دولار ضمن الحزمة الأكبر التي وصلت إلى 91 مليار دولار لكل من أوكرانيا وإسرائيل وتايوان، وضغط الرئيس بايدن أيضًا على الدول الأوروبية والآسيوية الحليفة لواشنطن ليس فقط لفتح مخازن أسلحتها وإرسالها إلى أوكرانيا؛ بل لتقديم مساعدات عسكرية غير مسبوقة، منها على سبيل المثال تقديم ألمانيا مساعدات بقيمة 10.7 مليار دولار، وقدمت بريطانيا دعمًا بقيمة 5.7 مليار دولار، وساهمت الدنمارك بنحو 5.2 مليار دولار، في حين قدمت هولندا 4.1 مليار دولار، وقدمت بولندا 3.2 مليار دولار، والسويد 2.9 مليار دولار، وفرنسا 2.9 مليار دولار، وكندا 2.1 مليار دولار، وفنلندا 1.9 مليار دولار، وكل ذلك خلال الفترة من فبراير (شباط) 2022 إلى فبراير (شباط) 2024.
وتراهن أوكرانيا على الرئيس جو بايدن للقيام بعمل كبير قبل مغادرته البيت الأبيض؛ فوفق التقديرات الأمريكية فإن حزمة المساعدات الأخيرة التي بلغت 61 مليار دولار يمكن أن تكفي أوكرانيا حتى منتصف عام 2025، وبموجب قانون “الإيجار والاستعارة” الذي مُرِّرَت بموجبه حزمة المساعدات الأمريكية الأخيرة لأوكرانيا، يمكن للرئيس بايدن أن يسعى إلى إقرار حزمة مساعدات جديدة من 40 إلى 60 مليارًا، يمكن أن تغطي الاحتياجات العسكرية لأوكرانيا حتى نهاية عام 2025، وهناك خيار آخر تعمل عليه أوكرانيا مع الرئيس بايدن، وهو الضغط على الأوروبيين لتقديم مساعدات عسكرية إضافية لأوكرانيا حال وصول دونالد ترمب إلى الحكم، ووقف إرسال المساعدات العسكرية لأوكرانيا، بحيث يكون الدعم الأوروبي مع الدعم من اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا بديلًا للمساعدات الأمريكية.
تؤكد السنوات الأربع التي قضاها ترمب في البيت الأبيض أنه لا يرغب في شن الحروب، وهو من الرؤساء القلائل في نصف القرن الأخير من التاريخ الأمريكي الذي لم يشن أي حرب كبرى، بل سعى إلى حل الصراعات في العالم، منها على سبيل المثال عندما التقى الزعيم الكوري الشمالي كيم جون أونج 3 مرات بهدف حل مشكلة البرنامج النووي والصاروخي لكوريا الشمالية، كما كانت قمته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي بفنلندا في 16 يوليو (تموز) 2018، نموذجًا لكيفية حل الخلافات بين الدول العظمى بالطرق السياسية والدبلوماسية؛ لذلك يعتقد ترمب أن الشارع والناخب الأمريكي غير راغب في استمرار الدعم العسكري والاقتصادي لأوكرانيا، خاصة في ظل حديث ترمب الدائم عن “الوضع الكارثي” للاقتصاد الأمريكي، وهي رؤية أثبتتها الساعات القليلة الماضية عندما انهارت البورصات الأمريكية، وتراجع معدل توليد الوظائف لأقل من 50 %، وهو ما يهدد الاقتصاد الأمريكي بالدخول في ركود عميق وطويل، وإذا حدث سيناريو الركود الاقتصادي فإن الدعم الأمريكي لأوكرانيا لن يكون مقبولًا حتى لو ظل الديمقراطيون في البيت الأبيض، وفي الوقت الحالي تضغط استطلاعات الرأي لوقف إرسال مزيد من السلاح إلى أوكرانيا بعد أن كشفت أن غالبية الأمريكيين، سواء أكانوا جمهوريين أم ديمقراطيين، ضد إرسال مزيد من السلاح والذخيرة والأموال إلى أوكرانيا، ففي استطلاع رأي لجامعة بنسلفانيا قال 71 % من الجمهوريين، و63 % من الديمقراطيين في مايو (أيار) الماضي إنهم مع وقف إطلاق النار في أوكرانيا، ووقف إرسال السلاح إلى كييف، ويردد كثير من الأمريكيين مقولة ترمب بأن “زيلينسكي أشطر تاجر في العالم؛ لأنه يأتي إلى واشنطن ويعود بـ61 مليار دولار إلى بلاده”، وهي إشارة إلى آخر حزمة من المساعدات التي أقرها الكونغرس في 24 أبريل (نيسان) الماضي؛ ولهذا كان ترمب شديد الوضوح في أخر مكالمة له مع زيلينسكي، جرت في 20 يوليو (تموز) الماضي عندما قال المرشح الجمهوري “سأجلب السلام إلى العالم، وأنهي الحرب التي كلفت كثيرًا من الأرواح، وسأنهي الحرب في أوكرانيا حتى قبل أن أتولى الرئاسة في يناير (كانون الثاني) المقبل”.
هناك اتهام للمرشح الجمهوري دونالد ترمب أنه لا يملك خطة واقعية لوقف الحرب كما يقول خلال 24 ساعة، لكن الواقع يقول إن ترمب لديه رؤية عملية جدًّا من وجهة نظر أنصاره لوقف الحرب، من خلال مجموعة من الخطوات، منها:
1- قطع المساعدات العسكرية والاقتصادية عن أوكرانيا سوف يجبرها على الجلوس إلى مائدة المفاوضات مع روسيا التي كانت تقول دائمًا إنها مستعدة للجلوس للمفاوضات؛ لأن أوكرانيا هي التي انسحبت من المفاوضات التي كانت تركيا تستضيفها في مارس (آذار) 2022، وكان اختيار دونالد ترمب لنائبه على البطاقة الانتخابية “جي دي فانس” رسالة قوية لأوكرانيا قال خلالها إنه مصمم على وقف إرسال السلاح إليها؛ لأن جي دي فانس ، وهو سيناتور عن ولاية أوهايو في مجلس الشيوخ، ظل يعارض- بقوة وشراسة- إقرار صفقة المساعدات العسكرية الأخيرة لأوكرانيا، التي أُقِّرَت في أبريل (نيسان) الماضي، وهناك من يقول من الجمهوريين إن الوضع المتأزم للجيش الأوكراني على الجبهة، مع التلويح بوقف إرسال السلاح والذخيرة، سوف يجبر كييف في نهاية المطاف على الجلوس إلى مائدة التفاوض مع موسكو.
2- يتزامن مع قرار قطع المساعدات عن أوكرانيا تشجيع روسيا على الجلوس إلى مائدة المفاوضات مع أوكرانيا، لكن وفق مستشاري الرئيس ترمب، فان روسيا لو رفضت الجلوس مع أوكرانيا يمكن حينئذ التهديد باستئناف إرسال السلاح الأمريكي إلى أوكرانيا.
3- وقف إطلاق النار على طول خط المواجهة الحالي في أثناء المفاوضات، وهو طلب روسي معروف، ويمكن أن يشكل هذا حافزًا قويًّا لروسيا للانخراط في المفاوضات.
4- تأجيل أي خطوات لانضمام أوكرانيا إلى حلف دول شمال الأطلسي (الناتو)، وهذا أحد المطالب المهمة لروسيا، التي لو كانت حاضرة على الطاولة في فبراير (شباط) 2022، لما عانى العالم اندلاع هذه الحرب.
المؤكد أن أوكرانيا أحد الملفات والقضايا الانتخابية الداخلية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري؛ لأن استمرار تلك الحرب، وإصرار هاريس وتيم والز على تحقيق “انتصار إستراتيجي” على روسيا، يدفع العالم نحو دوامة من الصراعات لن تنتهي؛ لأن الواقع على الأرض يقول إن روسيا تتقدم في الميدان، وكل أنواع وكميات السلاح والذخيرة التي أرسلتها واشنطن مع 50 دولة أخرى إلى أوكرانيا فشلت في هزيمة روسيا، وهو ما يؤكد أن المسار الآخر الذي يتبناه المرشح الجمهوري دونالد ترمب “هو البديل” من أجل وقف هذه الحرب التي عانى الجميع بسببها، سواء في أوروبا أو خارجها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.