كلما طفت في ميدان الكرملين يستوقفني هذا النصب التذكاري، الجميل، والبهيج، والرمزي. التمثال البرونزي الذي نراه في الصورة لا يمكن أن تخطئه الأعين في الساحة الحمراء في موسكو.
لكن قصته تبدو غامضة، والكلمات القليلة المدونة على قاعدته تبدو غير كافية للغرباء أمثالي.
فتشت في كتب التاريخ والموسوعات، وعرفت قصته، التي أرويها على النحو التالي.
يجسّد التمثال رجلًا عسكريًّا يحمل سيفًا ودرعًا، لا شك أنه محارب وقائد عسكري، نعرف من التاريخ أن اسمه “بوچارسكي”، وكان أحد أمراء روسيا في مطلع القرن السابع عشر، أما الرجل الجسور الواقف فيشير هاديًا بذراعه في الفضاء المجهول، فهو مدني يعمل بالتجارة، اسمه “مينين”.
مع أن المؤرخين يصنفون روسيا على أنها دولة عسكرية، ويذهب بعضهم إلى وسمها بأنها “ولدت لتحارب”، ولا تعرف السكون، ولا تركن إلى السلام، فإنه لولا مينين لباتت روسيا- منذ 400 سنة مضت- مستعمرة خاضعة للاحتلال البولندي، ولاختفى أثرها من التاريخ.
تعود قصة مينين إلى عام 1612، حين وقعت روسيا في حرب أهلية وتناحر على السلطة. طمع في عرش البلاد كل زائف وعميل، وهو ما سمح لاتحاد عسكري من بولندا وليتوانيا، مدعوم أحيانًا من السويد، باحتلال العاصمة موسكو، وإذلال شعبها.
فشل كل العسكريين في مواجهة الاحتلال، وخارت قوة موسكو بعد أن قُتل ووقع في الأسر كل المبدعين أصحاب الهمم العالية، والطاقة الخلاَّقة. ومن مدينة بعيدة عن موسكو، اسمها “نيچني نوفغورد”، انبرى تاجر اسمه “كوزما مينين” وغيّر تاريخ بلاده.
جمع “مينين” الأموال من تجار مدينته، واشتروا بها أسلحة من جديد، وجيّشوا مدافعين جددًا من المدنيين الذين لم يكن لهم سابق خبرة بالحرب، وأوكلوا الأمر إلى أمير من مدينتهم، اسمه “دميتري بوچارسكي”، للزحف إلى موسكو لطرد الغزاة، وهو ما تحقق لهم في النهاية.
يخلص الجغرافي والمؤرخ الروسي “ليف جومليوف” من هذه التجربة بدرسين مهمين:
أولهما أنه حين تسقط العواصم والمراكز الكبرى يتصدى لإنقاذ البلاد أهل الأطراف والمدن الهامشية التي تجرأت عليها العاصمة سابقًا، ونسيتها، وأغفلت دورها.
وثانيهما أنه بالإضافة إلى “مينين” التاجر الشهير الذي جمع المال من التجار الصغار، وجنّد المتطوعين المدنيين في مدينته، هناك آلاف من أصحاب الهمم العالية، والشغف الخلاَّق الذين أثروا في الناس، وقالوا لهم كلمة تحركهم، و”هزت” مشاعرهم، دون أن نذكرهم اليوم، أو نعرف اسمهم؛ لأنه- ببساطة- ليس بوسعنا صناعة تماثيل لآلاف الآخرين المجهولين الذين ندين لهم بالفخر والمجد، ونعيش بتضحياتهم إلى اليوم.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.