زرت البحر الأسود ثلاث مرات، وفي كل رحلة درس وعبرة، بالإضافة إلى رحلة رابعة بين الكتب.
بدأت الرحلة الأولى عام 2012، حين كنت في زيارة علمية إلى جامعة بوخارست في رومانيا. وبعد أن ألقيت المحاضرة المتفق عليها لطلاب كلية الجغرافيا، وكان عنوانها “التطور البيئي للأراضي المصرية”، ركبت القطار عبر نهر الدانوب شرقًا نحو ساحل البحر الأسود، وهناك مررت بالميناء الشهير “كونستانتسيا”، ومنه إلى دلتا الدانوب شمالًا.
من المحطات المهمة على هذا الساحل بلدة “المحمودية”، و”روزيتا”، أو رشيد. إذا كانت رشيد هي استلهام من رشيد المصرية فإن “المحمودية” هنا نسبة إلى السلطان محمود، والاسم نفسه تحمله ترعة “المحمودية” في الإسكندرية، وكان محمد علي باشا قد منح الترعة هذا الاسم استرضاءً للسلطان العثماني.
وجود آثار من فترة الإمبراطورية العثمانية في رومانيا ليس مقصورًا على أسماء الأماكن؛ فهناك مساجد لمسلمي تلك المنطقة الذين اعتنقوا الإسلام، أو جاءوا مهاجرين وعاشوا هنا طيلة العقود اللاحقة. دخلت واحدة من تلك البلدات، وزرت أحد المساجد هناك، والتقيت إمامًا وافدًا من تركيا ترسله بلاده بتنسيق مع حكومة رومانيا لرعاية مسلمي الإقليم.
أما الرحلة الثانية فكانت في عام 2015، حين زرت منطقة بحر آزوف من جهة ميناء “نوفوروسيسك”، الذي يعني حرفيًّا “روسيا الجديدة”، وهو الاسم نفسه الذي يرتبط بالإقليم الذي ضمته روسيا في جنوب أوكرانيا، وتريد إعادة ضمه إلى أراضيها على غرار الفترة القيصرية، وتسميه “نوفوروسيا”.
الشطر الروسي من بحر آزوف لا يزيد على 100 كم، في حين يتجاوز الشطر الأوكراني 500 كم من سواحل هذا البحر. زد على ذلك أنه قبيل الحرب الأخيرة كان الشطر الروسي من بحر أزوف مشطورًا مفصولًا معزولًا عن شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014.
قبل أزمة القرم عام 2014، كانت سواحل بحر آزوف هي نهاية الأرض الروسية على البحر الأسود من جهة نهر الدون، لكن ضم القرم فتح الباب أمام خيار لا مفر منه، ولا تراجع عنه، أي استكمال الخطوة بنقلة عسكرية جديدة لوصل كل الأقاليم بعضها ببعض؛ تجنبًا لأي استرداد أوكراني.
أما الرحلة الثالثة، فكانت عام 2016، وزرت فيها الإقليم الذي يضم مدينة “روستوف أون دون” التي شهدت تمرد فاجنر عام 2023، واحتلال بريغوجين لها، والتي تضم قيادة أركان القوات المسلحة المشرفة على عمليات الحرب في أوكرانيا.
هذه المدينة (روستوف على الدون)، وتكتب بالروسية “روستوف نا دانو”، هي نموذج يشبه مدن دلتا النيل، ويمكنني أن أشبهها بدمياط مثلًا في عصرها الذهبي. كانت هذه المدينة قلعة خاضعة للقوات العثمانية أيضا قبل أن تنتزعها روسيا في عهد الحكم القيصري، وتجعلها قاعدة عسكرية وعمرانية في الإقليم.
قبل ما يقرب من 200 سنة، أصدر رفاعة الطهطاوي، خلال إشرافه على مدرسة الطوبجية (المدفعية)، كتابًا في الجغرافيا، جاء فيه ذكر بحر “آزاق”، وهو اسم لا يمكن أن نجد له مقابلًا في الجغرافيا المعاصرة، إذ اختفت هذه الكلمة، بل مُحيت من الأطالس العربية والعالمية.
وحقيقة الأمر أن كلمة “آزاقAzak ” تعادل اليوم اسم “آزوف Azov” ؛ ذلك البحر الذي تدور فيه المعارك حاليًا بين روسيا وأوكرانيا.
استخدم الطهطاوي الرسم التركي للكلمة التي كان تتار القرم يطلقونها على ذلك البحر، قاصدين به معنى الأرض المنخفضة أو الواطئة، في إشارة إلى طبيعة المياه الضحلة، والأرض المستوية في هذا الإقليم.
في الأيام القليلة التي أمضيتها في منطقة آزوف، كان كل شيء يذكرك بالحرب الروسية التركية التي استمرت قبل قرون عدة. فالبلدة الرئيسة تسمى أيضا “أزوف”، وعلى تل مرتفع منها تتربع قلعة عسكرية تحولت إلى مزار ومتحف باهر التنظيم، والنظافة، والإبداع، يفتخر المتحف والقلعة بتاريخ الصراع بين الأتراك والروس قبل 300 سنة، الذي انتهي بسيطرة روسيا على قلعة آزوف سيطرة تامة.
بالإضافة إلى ما سبق، يكتسب بحر آزوف أهمية تاريخية في تكوين الدولة الروسية قبل أكثر من 300 سنة، حين شيّد المصلح الروسي الكبير “بطرس الأكبر” أول أسطول في المياه الدافئة ينطلق من نهر الدون، ويصل إلى بحر آزوف، ومنه للبحر الأسود.
أما الرحلة الرابعة فهي رحلة في المراجع الروسية، عرفت فيها ما تقوله الجغرافيا المدرسية عن هذا البحر، على النحو الذي تعرضه السطور التالية.
البحر الأسود هو الأكثر دفئًا بين البحار التي تطل عليها روسيا. وخلال الحضارة اليونانية القديمة، أطلق عليه اسم “بونت إيفكسنسكي”، بما يعني “بحر مضياف”، تمتد مساحته بما يعادل البحر البلطي تقريبًا، وإن كان يختلف عنه- بشدة- في الحجم والعمق.
ارتباط البحر الأسود بالمحيط يوفره نظام البحار الداخلية (مرمرة، وإيجه، والمتوسط)، عبر مضايق (البسفور، والدردنيل، وجبل طارق)، وأقصى امتداد لمسطحه المائي من الغرب إلى الشرق يبلغ 1130كم، وأقصى اتساع (من الشمال إلى الجنوب) يبلغ 611 كم، في حين يبلغ أقل اتساع 263 كم.
ويرقد البحر الأسود في منخفض تكتوني عميق في قشرة محيطية الطابع مؤلفة من غطاءات رسوبية تعود إلى الزمن الكاينوزي، ويبلغ أقصى عمق للمياه نحو ألفين و210 أمتار. وتنتهي المنحدرات القارية حول البحر (خاصة في جبال القوقاز) بشكل جرفي حاد إلى البحر، وتصنع في بعض المناطق خوانق تحت المياه. والرف القاري متطور، وناضج بشكل أوضح في الجزء الشمالي الغربي من البحر عند شواطئ أوكرانيا.
ويترك الموقع الجغرافي للبحر، والمساحة الصغيرة نسبيًّا لصفحة مياهه، آثارها على سيادة نمط مناخي واحد، قريب الشبه من مناخ البحر المتوسط، بشتاء دافئ رطب، وصيف جاف نسبيًّا، غير أن البناء الجبلي للمناطق الساحلية يستدعي بعض التباين في المناخ في أجزاء بعينها من البحر، ومن ذلك زيادة الأمطار على الأجزاء الشرقية ارتباطًا بالحاجز الجبلي القوقازي.
وفي أوقات الشتاء، يؤثر الوضع المناخي في زيادة هبوب رياح شمالية شرقية على السطح المائي للبحر، بمتوسط سرعة من 7 إلى 8 أمتار/ ثانية، وتهب رياح أقوى (أكثر من 10 أمتار/ ثانية)، بل تهب رياح عاصفة ارتباطًا بمرور أعاصير على البحر، وينخفض متوسط درجة حرارة الهواء شتاء بالاتجاه من البحر المفتوح إلى السواحل. وفي الأجزاء الشمالية الشرقية على مقربة من سواحل روسيا، تقترب الحرارة من الصفر المئوي، وفي الأجزاء الشمالية الغربية تبلغ (-2 ) درجة مئوية، وفي الجنوب الشرقي تتراوح بين (-4) و(-5) درجة مئوية.
وفي الصيف تهب على البحر الأسود رياح شمالية غربية، يبلغ متوسط سرعتها من 3 إلى 5 أمتار/ ثانية، وتتناقص من الغرب إلى الشرق، والرياح القوية- خاصة العاصفة- يندر رصدها صيفًا، ويكون حدوثها مرتبطًا بالأعاصير، ويبلغ متوسط درجة حرارة الهواء في أغسطس ما بين 22 درجة مئوية، في الشمال الغربي إلى 25 درجة مئوية في شرق البحر.
والأنهار الكثيرة التي تصب في البحر الأسود، تحمل سنويًّا ما مقداره 346 كم3 من المياه العذبة، وأكبر إسهام يقدمه نهر الدانوب (نحو 201 كم3/ سنة)، وتلقي أنهار الجزء الشمالي الغربي من البحر بنحو 270 كم3/ سنة من المياه العذبة، أي ما يعادل 80 % من المجموع السنوي، في حين تلقي أنهار القوقاز إلى مياه البحر الأسود بنحو 43 كم3/ سنة، ويتفق أكبر إسهام نهري إلى البحر الأسود مع شهر الربيع، ويسجل الأدنى مع الخريف.
وفوق سطح البحر، وبمحاذاة الساحل، يوجد تيار بحري. وفي الجزء الأوسط للبحر توجد حلقتان من التيارات البحرية، واحدة من الجانب الغربي، والثانية في الشرقي، وبمحاذاة سواحل روسيا تحمل التيارات المياه من الجنوب، وعبر المضايق البحرية يحدث تبادل مائي مع المياه المجاورة، فعبر البسفور تحمل التيارات السطحية مياه البحر الأسود، ويحمل التيار الأعمق من بحر مرمرة إلى البحر الأسود مياهًا أكثر ملوحة، وأكثر كثافة.
وتبلغ ملوحة مياه البحر الأسود في الجزء الأوسط 17 إلى 18 في الألف، وتزداد مع العمق إلى 23 في الألف، وتنخفض عند مصبات الأنهار إلى ما بين 5 و10 في الألف.
ويتميز البحر الأسود باحتواء مياهه على غازات ثقيلة مذابة، وتحمل معها الأكسجين؛ ومن ثم فهي ملائمة للحياة، لكن فقط في الطبقة السطحية حتى عمق 180 مترًا، وفي الأعماق الأكبر من ذلك يتناقص الأكسجين تناقصًا جذريًّا، ويحل محله هيدروجين سام؛ ومن ثم فإن الطبقات العميقة من مياه البحر الأسود مجردة من الحياة.
ويعد بحر آزوف أصغر البحار على القارة الأوروآسيوية، وتبلغ مساحته نحو 40 كم2، وحجم مياهه 290 كم3، وأقصى نقطة عميقة فيه تبلغ 13مترًا، ومتوسط العمق 7.4م، ويربطه بالبحر الأسود مضيق قليل العمق هو مضيق “كيرتش”.
وبحر آزوف هو بحر قاري، وتضاريس قاعه بسيطة جدًّا، ونتيجة صغر حجمه، وتضمنه في قلب اليابس، فإنه لا يترك أثرًا في المناخ؛ ومن ثم فإن مناخه يحمل صفات مناخ اليابس المجاور، ويتجلى ذلك بوضوح في الجزء الشمالي منه، الذى يتسم بشتاء بارد، وصيف جاف حار، وفي الأجزاء الجنوبية منه، يؤثر فيه البحر الأسود المجاور.
وهنا نجد أن المناخ أكثر لطفًا ورطوبة، ويبلغ متوسط درجة الحرارة في يناير ما بين (-2) إلى (-5) درجة مئوية، وحين تهب رياح عاصفة قادمة من الشرق أو الشمال الشرقي، ربما تنخفض درجة الحرارة إلى (-27 ) درجة مئوية، وصيفًا يسخن الهواء فوق سطح الماء إلى 25 درجة مئوية.
ويصب في بحر آزوف نهران كبيران: الدون وكوبان، فضلاً عن 20 نهرًا آخر أقل حجمًا، ويحمل الدون وكوبان لبحر آزوف أكثر من 90 % من الإسهام النهري السنوي؛ ومن ثم فإن المياه العذبة تؤثر في الجزء الشرقي من هذا البحر.
وتتدفق هذه المياه في فصل الربيع، وخلال مضيق كيرتش يحدث تبادل للمياه مع البحر الأسود، ومن بحر آزوف يتدفق نحو 49 كم3 من المياه سنويًّا، في حين يدخل إليه 34 كم 3؛ ومن ثم فإن الرابح هنا هو البحر الأسود، وكانت ملوحة مياه بحر آزوف في النصف الأول من القرن العشرين تبلغ 11 في الألف، وبعد ذلك، وارتباطًا بانخفاض تدفق المياه النهرية المستخدمة في مشروعات الري، وزيادة تدفق المياه من البحر الأسود إلى آزوف، صارت الملوحة أعلى، وبلغت في بداية ثمانييات القرن العشرين نحو 14 في الألف.
ويتعرض بحر آزوف صيفًا لدفء بقدر كافٍ، ففي يونيه وأغسطس تبلغ درجة حرارة المياه البحرية 25 درجة مئوية، وأقصى درجة مئوية (32 د. م) تسجل على السواحل نفسها، والمتوسط العام لسنوات رصد طويلة لدرجة حرارة المياه السطحية تبلغ 11 درجة مئوية.
ويتكون الجليد في بحر آزوف كل عام، لكن نتيجة التغير المتكرر والسريع في الأحوال الجوية سنة بعد أخرى، قد يتكرر تعرض الجليد الشتوي للظهور والاختفاء، ويتحول من جليد ساكن إلى جليد طافٍ والعكس، ويبدأ تكون الجليد في نهاية نوفمبر في خليج تاجانروجسك، ويذوب هذا الجليد في شهري مارس وأبريل.
وكبحر قليل العمق، يسهل تسخين مياهه وتجديدها، وتقليب المياه الكثيفة، وبفضل الحمولة الغنية التي تجلبها الأنهار من مواد عضوية ومعدنية، يصبح آزوف بحرًا مضيافًا لظروف تطوير الحياة العضوية. وفي بحر آزوف أكثر من 80 نوعًا من الأسماك، أشهرها أنواع البحر المتوسط.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.