ينتهي عام 2023 تاركًا كثيرًا من الملفات العالقة عالميًّا، فالمجتمع الدولي يعيش لحظة اضطراب واستقطاب سياسي كبير لم يشهدها منذ عام 1945 تقريبًا، حيث تبقى الآثار السلبية للحرب الروسية- الأوكرانية على الهياكل الأممية والعلاقات العالمية، في حين يعيد الصراع الأمريكي- الصيني تقسيم الخريطة الجيوسياسية تقسيمًا حادًّا، حيث تتنامى التحالفات العسكرية، لا سيما التابعة لحلف شمال الأطلسي، أو التي تقودها أمريكا منفردة في المحيطين الهندي والهادي، وقد أدى هذا إلى تباطؤ في الاقتصاد العالمي، واضطراب في سلاسل التوريد بين الصين والولايات المتحدة وأوروبا.
كما يبقى ملف الطاقة مُعلقًا، حيث لم يذهب العالم- جديًّا- إلى أجندة خضراء، على الرغم من التقلب الحاد في أسعار النفط والغاز من جراء التنافس السياسي بين روسيا والولايات المتحدة والسعودية وباقي أعضاء منظمة أوبك. كما تعد الاستجابة العالمية لاحتواء تبعات جائحة (كوفيد- 19) غير فاعلة، أو ليست على قدر الضرر الذي لحق بكثير من البلدان، لا سيما النامية، التي تأثرت بشدة، وتعاني تحت وطأة الديون التي تتراكم عليها نتجة الركود الاقتصادي.
ويعاني الشرق الأوسط أزمة إنسانية جديدة في قطاع غزة من جراء العدوان الإسرائيلي الذي خلف عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، وأكثر من مليون نازح داخل القطاع، فيما تعطلت الملاحة الدولية بسبب هجمات قامت بها جماعة أنصار الله “الحوثي” اليمنية جنوب البحر الأحمر، وفي المحيط الهندي، من جراء التدخل الإسرائيلي العسكري في قطاع غزة؛ مما زاد اضطراب الاقتصاد العالمي.
قارة آسيا تشهد عملية تحولات كبرى على الأصعدة كافة. كما سيعيش العالم في عام 2024، انتخابات في عدد كبير من بلدان العالم، يتوقع أن تؤدي إلى تغييرات كبرى في الخريطة السياسية، مع توقع صعود التيارات اليمينية أو “الشعبوية”، كما يصفها البعض.
لا تزال الحرب الروسية- الأوكرانية تشكل خطرًا جيوسياسيًّا كبيرًا في عام 2024، على الرغم من هدوء الجبهات بعد تباطؤ الهجوم الأوكراني المضاد، وعدم تطوير الهجوم الروسي، وعدم وجود رغبة أمريكية- غربية في استمرار مستوى الدعم العسكري والمالي الكبير لكييف، لا سيما أن واشنطن ترى أن موسكو استُنزِفَت عسكريًّا وبشريًّا واقتصاديًّا، والحد مِن خططها في التوسع داخل أوكرانيا، وأعيد ترميم حلف شمال الأطلسي، وتوسع ورُبِطَ- على نحو أكبر- بالولايات المتحدة، وتم إنهاء أي مشروع “فرنسي- ألماني” لجيش أوروبي منفصل عن البنتاغون، والتأكيد للحلفاء أن الولايات المتحدة جادة في دعمها، عكس ما كان يروج عن ترك أوكرانيا وحيدة.
قد يشهد عام 2024 فرصة لتفاوض روسي- أمريكي بشأن اتفاقات أمنية جديدة تتعلق بالوضع في أوروبا، ومن المتوقع ألا تترك واشنطن روسيا معزولة في قبضة الصين، حيث يمثل شرق سيبيريا خزان موارد ضخمًا للطاقة الرخيصة؛ وعليه، فإن وصول بكين إلى هذا الخزان بدون منافسة، سيقويها ويدعم موقفها في الصدام مع الولايات المتحدة؛ لذا قد تدفع واشنطن أوروبا- مرة أخرى- نحو روسيا؛ لتخفيف تحالفها المضطرب والخاضع للضرورة مع الصين، ولكن هذه المرة بشرط واضح؛ وهو أن الحرب أثبتت للروس أنها ليست الخيار الأفضل، وقد يكونون غير مهزومين، ولكنهم بالتأكيد ليسوا فائزين.
توتر العلاقات الصينية- الأمريكية بلغ ذورة خطيرة عام 2023، كادت تصل إلى تصادم بين قطع حربية في نطاق بحر الصين الجنوبي، ولكن يبدو أن لقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس الصيني شي جين بينغ في سان فرانسيسكو- مؤخرًا- قد وضع خطوطًا حمراء على أي صدام عسكري، وأبقى التنافس في وضعه الإستراتيجي، لا سيما أن بكين تتفهم أن واشنطن جادة في الدفاع عن تايوان، وهذه مسألة عسكرية قد تهدر تفوق الصين المتنامي اقتصاديًّا في مغامرة عسكرية غير محسوبة، علمًا بأن الوجود العسكري الصيني المتزايد في بحر الصين الجنوبي، والتقدم التكنولوجي العسكري، سيفاقمان التوترات الجيوسياسية.
وتصاعدت التوترات التجارية في عام 2018 عندما فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية على الواردات الصينية لخفض عجزها التجاري مع الصين، وقد أدى هذا إلى مزيد من الصراع التجاري بين البلدين؛ مما أثر كثيرًا في التجارة العالمية. في ديسمبر (كانون الأول) 2018، انخرطت الولايات المتحدة والصين في مفاوضات تجارية، لكن المحادثات انهارت في مايو (أيار) 2019، ووقّعت الدولتان- في النهاية- على اتفاق المرحلة الأولى التجاري في يناير (كانون الثاني) 2020. ومنذ ذلك الحين، فرضت الولايات المتحدة قيودًا على الصادرات إلى الصين، لا سيما ما يتعلق بالتكنولوجيا؛ بسبب المخاوف بشأن الملكية الفكرية، وقد أسهم ذلك في التوترات التجارية.
كما أثرت التجارة المتنامية في الغاز الطبيعي المسال بين البلدين في العلاقات الأمريكية الصينية، وأصبحت الصين من أكبر مستوردي الغاز الطبيعي المسال الأمريكي؛ مما ساعد على تقليل العجز التجاري الأمريكي مع الصين. وقد أثار هذا القلق في بعض الأوساط؛ لأنه أعطى الصين قدرًا كبيرًا من النفوذ على قطاع الطاقة في الولايات المتحدة، خاصةً بعدما هددت الصين ببيع سندات الخزانة الأمريكية، وأدرجت الولايات المتحدة بعض شركات التكنولوجيا الصينية على القائمة السوداء. هناك مخاوف متزايدة من أن التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين يمكن أن تتصاعد إلى مزيد من الانفصال المالي، ومن شأن هذا الصراع أن يتسبب في اضطراب كبير في الأسواق المالية العالمية.
وعلى الرغم من العلاقة المعقدة بين الولايات المتحدة والصين، وخاصة ما يتعلق بالتجارة وسلاسل التوريد والمجالات الاقتصادية، فإنه من المرجح أن نشهد انتعاشًا في العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، وهو الاتجاه الافتراضي للسياسة الصينية، مع أن بعض القضايا، مثل العقوبات الأمريكية على الشركات الصينية، قد تؤدي إلى تعطيل القنوات الدبلوماسية. لكن حتى الآن، يتم التنافس بشكل مسؤول فيما بينهما، ولكن خطر تصلب العلاقات ما زال قائمًا.
تعد مخاطر المناخ من أكثر الموضوعات استقطابًا سياسيًّا في العالم، ومن أكبر المخاطر الجيوسياسية لعام 2024. وسيكون لمخاطر المناخ آثار بعيدة المدى في الأمن القومي، والاستقرار العالمي، وقد أصبحت آثار تغير المناخ واضحة بالفعل في شكل الظواهر الجوية المتطرفة، وانقراض الأنواع، وارتفاع منسوب مياه البحر، وتزايد الفقر في البلدان النامية. وقد أدى تغير المناخ إلى أحداث مناخية أكثر تكرارًا وشدة، مثل الأعاصير، والجفاف، والفيضانات، وحرائق الغابات؛ مما أدى إلى إتلاف البنية التحتية، وتعطيل سلاسل التوريد، وندرة الموارد، وعدم الاستقرار الاقتصادي.
وقد أدى ذلك إلى انخفاض مستويات هطول الأمطار في بعض أنحاء العالم؛ مما أدى- بدوره- إلى ندرة المياه، التي تثير التوترات الجيوسياسية بين دول مثل تركيا وسوريا والعراق. وأدى تزايد حالات الجفاف الشديدة والمتكررة في إفريقيا- جنوب الصحراء الكبرى- إلى انخفاض توافر المياه لأغراض الزراعة والشرب. وتؤدي ندرة المياه في أمريكا الجنوبية إلى تفاقم الاضطرابات التشغيلية، والاحتجاجات، ومخاطر مراجعة العقود لشركات التصنيع، كما تزيد تفاقم مخاطر انخفاض إنتاجية المحاصيل، وارتفاع أسعار المواد الغذائية. ومن المرجح أن يتسبب الجفاف في فرض قيود مستمرة على مساهمة أمريكا اللاتينية في تحقيق أهداف تحول الطاقة العالمية. على سبيل المثال، تكبد القطاع الزراعي في البرازيل خسائر بقيمة 9 مليارات دولار أمريكي في عام 2021 بسبب الجفاف.
تؤدي الجغرافيا السياسية دورًا حاسمًا في تسهيل التعاون العالمي لمعالجة تغير المناخ، حيث تلتزم 196 دولة باتفاق باريس بشأن تغير المناخ، الذي تم تبنيه عام 2015. ومؤخرًا، خلال مؤتمر المناخ (COP28) في دولة الإمارات العربية المتحدة، جددت بلدان العالم التزامها بأجندة مُناخية واعدة. ولكن إذا لم تُتخذ إجراءات جماعية كافية لوقف الاحتباس الحراري العالمي، فقد تصبح التأثيرات كارثية، مثل: النزوح الجماعي، وانعدام الغذاء، وانعدام الأمن المائي، والاضطرابات الجماهيرية، ولكن ليس من المرجح أن تتحول البلدان التي تعتمد- اعتمادًا كبيرًا- على الوقود الأحفوري نحو الطاقة المتجددة، فلا يزال هذا التحول غير مُجدٍ اقتصاديًّا، ويغيب عنه التمويل، ويتجاهل متطلبات التنمية في كثير من البلدان النامية التي تبحث عن تأمين الطاقة بأسعار معقولة.
ومن المتوقع خلال عام 2024 أن تواجه أوروبا تحديًا كبيرًا بعد العقوبات التي فُرضت على روسيا، ووقف إمدادات الغاز الروسي “الرخيص”. وقد وصلت أسعار الغاز الأوروبية إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق في أغسطس (آب) 2023؛ ما قد يجعل بعض البلدان مُضطرة إلى إعادة محطات الفحم إلى العمل؛ مما يشكل تهديدًا للتحول إلى الطاقة النظيفة. وفي حين أن تنفيذ الإصلاحات الرامية إلى مكافحة تغير المناخ مدرج على أجندة التحول الطويلة الأجل، فإن تأمين الطاقة بأسعار معقولة يمثل أولوية فورية لكثير من البلدان؛ للاستجابة للتحديات القصيرة الأجل.
مؤخرًا، بدأت تحذيرات جديدة من المتحورات الجديدة لـ(كوفيد- 19)؛ لذا يبدو أن المخاطر الصحية، والتأثير الاجتماعي والاقتصادي للجائحة سيمتدان إلى عام 2024. وقد أثرت الجائحة- تأثيرًا كبيرًا- في التجارة العالمية، حيث أغلقت كثير من البلدان حدودها، وقيدت السفر للسيطرة على انتشار الوباء، وهذا يعني استمرار عدم اليقين في الأسواق العالمية فيما يتعلق بخطر أي عملية إغلاق شامل مستقبلًا.
وتواجه سلاسل التوريد الآن اضطرابًا مُستمرًا، حيث الطلب مُرتفع على السلع، ولكنَّ هناك نقصًا في العمال (تفاقم بسبب الإجازات المرضية المرتبطة بجائحة كوفيد- 19)، ومن المرجح أن يؤدي الركود العالمي إلى تدهور الائتمان، والقدرة على الاستثمار. كما أدى الوباء إلى تعزيز الحمائية المتزايدة، حيث فرضت بعض البلدان حواجز تجارية، وتعريفات جمركية. ومن الممكن أن تؤدي هذه السياسات إلى إثارة التوترات الجيوسياسية، وتؤدي إلى نظام تجاري عالمي أكثر تجزئة، مع ما يترتب على ذلك من آثار سلبية على النمو الاقتصادي، والاستقرار الجيوسياسي.
وقد كشفت الجائخة أيضًا عن نقاط الضعف في نظام إدارة الصحة العالمية، وسلط الضوء على الحاجة إلى زيادة الاستثمار في أنظمة مراقبة الأمراض، وأبحاث اللقاحات وتطويرها، حيث تكافح كثير من البلدان لتنسيق استجاباتها للوباء بشكل فعال. وقد أدى ذلك إلى انعدام الثقة والتعاون بين الدول، مما قد يكون له آثار سلبية في الأزمات الصحية المستقبلية. إذا لم تُعالج هذه القضايا، فإن العالم يواجه خطر حدوث مزيد من متحورات الكوفيد الشديدة العدوى، فضلًا عن مزيد من الأوبئة.
تشن إسرائيل حربًا على غزة تُعد مِن بين أكثر الحملات دموية وتدميرًا في التاريخ. ومع تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين في غزة 20 ألف شهيد، يدعو المجتمع الدولي إلى وقف إطلاق النار. وتعهدت إسرائيل بالمضي قدمًا، قائلة إنها تريد تدمير القدرات العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في أعقاب الهجوم الذي قامت به الجماعة المسلحة عبر الحدود في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، وقتلت فيه 1200 شخص، واحتجزت 240 آخرين رهائن.
قد يشهد مطلع عام 2024 توصلًا إلى اتفاق لإطلاق النار، مع ترتيبات سياسية جديدة لحكم قطاع غزة بإخراج حماس من السلطة، وليس القضاء عليها، على أن تتولى مصر وقطر والولايات المتحدة ترتيب انتخابات تأتي بحكومة تكنوقراط، تتفاوض مع الجانب الإسرائيلي على قواعد انسحابه من القطاع، وترتيب إعادة الإعمار، والتوصل إلى هدنة طويلة الأجل، إن لم يكن تسوية شاملة، ولكن هذا سيتوقف على مدى قدرة واشنطن على الضغط على تل أبيب لوقف عمليتها العسكرية، والموافقة على التفاوض، دون الالتفات إلى سقفها العالي الذي دخلت به هذه الحرب، وهو تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، والقضاء على حركة حماس تمامًا.
على صعيد آخر، شنت جماعة أنصار الله “الحوثي” في اليمن عدة هجمات على سفن بحرية تجارية، واحتجزت غيرها؛ بدعوى الدفاع عن فلسطين، والضغط لوقف الحرب على قطاع غزة. أدى هذا إلى إرباك حركة الملاحة البحرية بين آسيا وأوروبا عبر البحر الأحمر وقناة السويس، وهذا استدعى مستوى غير مسبوق من العسكرة دعت إليه الولايات المتحدة لتكوين قوة بحرية تضمن حرية الملاحة وأمنها في مضيق باب المندب، لكن هذه الدعوة تواجه- إلى الآن- استجابة محدودة، حتى من البلدان المتضررة تضررًا مباشرًا من ممارسات الحوثي، ولكن غالبًا لا أحد من البلدان الكُبرى أو الإقليمية يرغب في التورط في حرب إقليمية، أو الانخراط مع مشكلات الشرق الأوسط المكلفة والطويلة الأمد.
ومن غير المتوقع أن يستمر تهديد الحوثي طويلًا، فالمسألة مرتبطة بتسوية سياسية مع المملكة العربية السعودية أكثر من كونها تتعلق بالحرب في غزة؛ ولهذا ترغب الرياض في عدم نشوب أي حرب حاليًا في اليمن؛ لإتمام مرحلة المفاوضات، والتوصل إلى سلام شامل بعد حرب خاضتها منذ عام 2015، كما أن المملكة لا ترغب في أن تعيد مستوى التوتر على حدودها مرة أخرى، وفي الوقت نفسه ترى أنه من المهم الحفاظ على اتفاق التهدئة مع إيران، الحليفة للحوثي، الذي تم برعاية صينية، فهذا سيحقق لرياض التفرغ لمشروعها الطموح في تنويع مصادر دخلها بعيدًا عن النفط، وإدارة التغيير الثقافي والاجتماعي في البلاد.
خفض البنك الدولي توقعاته للنمو في الصين العام المقبل، كما خفض توقعاته لعام 2024، بشأن نمو الناتج المحلي الإجمالي للاقتصادات النامية في شرق آسيا والمحيط الهادي، وتظهر التوقعات أن المنطقة، وهي أحد محركات النمو الرئيسة في العالم، تستعد لأبطأ وتيرة نمو لها منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي، مع استثناء الأحداث غير العادية، مثل جائحة فيروس كورونا، وصدمة النفط العالمية في السبعينيات.
مع توقع صندوق النقد الدولي تباطؤ النمو في عام 2024، تتعهد تركيا ببناء احتياطيات من العملة، حيث بدأت تركيا بتعزيز الثقة بالاقتصاد التركي، وجذب رؤوس الأموال الأجنبية؛ من خلال سلسلة اجتماعات مع مستثمرين عالميين، ولكن مع تشديد السياسة النقدية، وتحول موقف السياسة العامة إلى أقل تيسيرًا، من المتوقع أن يتباطأ نمو تركيا إلى 3.25% في عام 2024 من 4% في عام 2023، حسبما ذكر صندوق النقد الدولي، كما من المتوقع أن يتقلص عجز الحساب الجاري التركي إلى نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، في حين من المتوقع أن يتباطأ التضخم إلى 46% بحلول ديسمبر (كانون الأول) 2024، من 69% في نهاية عام 2023، وهو ما سيفرض على تركيا قيودًا جديدة في مواقفها السياسية، في ظل التوترات الحالية في المنطقة.
من المقرر أن تعقد روسيا الجولة الأولى من انتخاباتها الرئاسية في مارس (آذار) المقبل، مع احتمال إجراء جولة ثانية في أبريل (نيسان)، تتزامن مع الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا، ويمثل إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نيته الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة في مارس (آذار) 2024، فرصة قوية تتيح له الاستمرار على رأس السلطة في بلاده حتى قرب منتصف 2030، في حين يواجه خصمه ونظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، غموضًا بشأن مستقبله السياسي، بعدما تراجعت حظوظه في الاستمرار أمام العمليات الروسية في أوكرانيا، فعقب تطبيق الأحكام العرفية في أوكرانيا، التي خسرت أربعة أقاليم كبيرة (لوغانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا، وخيرسون) تمثل قرابة 20 % من مساحة البلاد، أعلن الرئيس فولوديمير زيلينسكي، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أن الظروف ليست ملائمة لإجراء الانتخابات المقرر لها العام المقبل، وهو ما تسبب في غضب معلن في الدوائر السياسية الغربية.
ومن ثم تتزايد فرص خروج زيلينسكي من دوائر السلطة، وتشبثه باستمرار الحرب ضد روسيا، مع إلحاحه الدائم على طلب المساعدات والدعم دون كلل، في وقت تشتد فيه أزمات الغرب الاقتصادية؛ لذا قد يتحمل زيلينسكي وحده فاتورة الخسارة في أوكرانيا أمام روسيا، ويكون الخروج الآمن، في حال تصالح القوى الغربية مع روسيا، وتأمين حدود حلف (الناتو) ضد أي تهديد عسكري، قد يصبح على حساب القيادة الأوكرانية الحالية، ما يعقد الموقف. إن إعادة انتخاب بوتين رئيسًا أمر مؤكد؛ ما يعني أن الحرب الروسية على أوكرانيا تبدو أيضًا وكأنها ستستمر، مما يختبر صبر الدول الغربية، الحليف الرئيس لكييف، وسوف تستمر الحرب في التأثير في الاقتصاد الروسي، وهو ما قد يتطلب مزيدًا من التدابير أمام الرئيس الجديد.
القضية الكبرى لعام 2024 في إيران هي بقاء آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى الإيراني، في منصبه، وضمان مَن سيخلفه في ظل الأحداث المتصاعدة في غزة، والتصعيد في معاقل الشيعة في المنطقة في العراق، ولبنان، واليمن، ويطرح اسم مجتبى، الابن الثاني للمرشد الأعلى، البالغ من العمر 54 عامًا، وخليفته غير الرسمي، بوصفه كبير رجال الدين في الحرس الثوري الإسلامي، فهو بذلك يجلس على قمة الركيزتين الأساسيتين للجمهورية، مؤسستها العسكرية و مؤسستها الدينية، ويُطرَح وجوده- بقوة- خليفةً للخامنئي.
وفي ضوء هذا ستبرز أهمية انتخابات البرلمان المؤلف من 290 مقعدًا، التي ستُعقد في الأول من مارس (آذار) 2024، خاصة أن هذا العام سيشهد في نهايته الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتأثيرها الكبير في العالم كله، وخاصة العلاقة مع إيران؛ فإذا أعيد انتخاب بايدن، فقد تكون طهران مستعدة للتعامل مع واشنطن بشأن القضية النووية، أو موضوعات أخرى، مع العلم بأن السياسة الأمريكية ستكون قابلة للتنبؤ بها لمدة أربع سنوات على الأقل، لكن إذا فاز شخص أكثر تشددًا، فقد تزيد فرص التصعيد، ففي حين ستوفر إدارة بايدن الثانية الاستمرارية، فإن إدارة ترمب الثانية لن يكون من الممكن التنبؤ بها.
يهيمن حزب بهاراتيا جاناتا، الذي يتزعمه ناريندرا مودي، على السياسة الهندية منذ عام 2014، ويتمتع بدعم كبير، ويرجع ذلك- جزئيًّا- إلى الأداء الاقتصادي القوي، ومن المتوقع أن يفوز مودي على راهول غاندي، زعيم ائتلاف المعارضة، وهو مناضل ضعيف، لكن الانتخابات الكبرى ستُجرى في خمس ولايات من الآن حتى أبريل (نيسان) المقبل، وهو ما قد يمنح حزب بهاراتيا جاناتا، أو المعارضة، زخمًا إضافيًّا.
وسوف تستمر حكومة مودي الثالثة في إعطاء الأولوية للإصلاحات الداعمة للأعمال التجارية، والسعي إلى تعزيز النفوذ الهندي على المستوى الدولي، وسوف تظل محايدة بشأن بعض القضايا المثيرة للجدل، مثل الحرب في أوكرانيا، وستستمر في تقديم نفسها زعيمًا للعالم النامي، ومن المرجح أن يتفاقم التوتر بين الهند والصين، في حين تتطور علاقات الهند مع الولايات المتحدة، ومع ذلك، فإن مكانة مودي الدولية قد تتعرض لمزيد من العوائق بسبب القومية الهندوسية لحزبه، وسياساته الطائفية.
تشهد الولايات المتحدة تحولًا ملحوظًا فى المشهد السياسي، فقد زادت بشدة نسبة الناخبين المتعاطفين مع التيارات السياسية اليمينية، ويدعمون شخصيات مثل دونالد ترمب، وكذلك حاكم فلوريدا رون ديسانتيس، من الحزب الجمهوري، وغيرهما ممن يميلون إلى التطرف، وفى الوقت نفسه، تزداد ثقة الناخبين السياسيين ذوى الميول اليسارية وعزيمتهم، ممن يدعون إلى سياسات أكثر تقدمية، مثل زيادة الدعم الاجتماعي للسكان المحرومين اقتصاديًّا، واتخاذ مواقف أكثر انفتاحًا تجاه المهاجرين، وتتوافق هذه الدائرة الانتخابية التقدمية- إلى حد كبير- مع الحزب الديمقراطي.
وفى هذا المناخ السياسي الشديد الاستقطاب، يواجه الطرفان مخاوف بشأن الطريقة التي ينظر بها جمهور الناخبين- على النطاق الأوسع- إليهما؛ فالحزب الجمهوري يشعر بالقلق من أن يُنظر إليه بوصفه ممثلًا لليمين السياسي فحسب، في حين يُحذر الحزب الديمقراطي من تصنيفه بأنه شديد اليسارية؛ لذا تتوقف نتائج الانتخابات في الولايات المتحدة على الناخبين الوسطيين، الذين لم يحددوا أمرهم بعد.
وفي هذا الصدد، سوف يستمر المرشحان الرئيسان دونالد ترمب وجون بايدن في انتهاج سياسة صناعية وحمائية كبيرة، ومن المحتمل أن تسعى إدارة ترمب إلى عكس بعض إصلاحات بايدن، على سبيل المثال، تقليص قانون خفض التضخم (IRA)، وخفض حوافز الطاقة النظيفة، والتركيز بشكل أقل على الاعتبارات البيئية والاجتماعية، والحوكمة، ومن المرجح أن يتراجع ترمب عن نهج بايدن الأكثر عدوانية في التعامل مع المنافسة، على سبيل المثال في قطاع التكنولوجيا، الذي قد يشمل إلغاء كثير من القواعد التي قُدِّمَت من خلال أمر تنفيذي في عام 2021، وأن يكون أكثر تساهلًا بشأن عمليات الدمج والاستحواذ العالمية.
ومع أن التركيز سيكون محليًّا، فإن التوتر الإقليمي في الشرق الأوسط، والصراع في أوكرانيا، سوف يتطلبان الاهتمام، وقد يخفض ترمب دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا، وقد تعود التوترات مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي إلى الظهور. كما أن الموقف الصارم تجاه الصين يحظى بدعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ومن الممكن أن تعمل الإدارة الجمهورية على تعزيز هذا الموقف بشكل أكبر، ويبدو من المرجح أن يستمر تآكل المعايير والمؤسسات الدولية، وخاصة في عهد ترمب.
وعلى صعيد آخر، يستخدم الجمهوريون المؤيدون لترمب الحرب بين إسرائيل وحماس للحد من دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا. وانتقد الجمهوريون الرئيس جو بايدن لقراره مقابلة الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال رحلته لحضور قمة أبيك لدول آسيا والمحيط الهادي في كاليفورنيا في نوفمبر الماضي. كما أن تهديد دونالد ترمب بسحب الولايات المتحدة من الناتو، إذا أعيد انتخابه، يهدد بمزيد من عدم الاستقرار في جميع أنحاء أوروبا.
في ظل العلاقة المتوترة بين الصين وتايوان، قد تكون الانتخابات الرئاسية في تايوان نقطة تحول. إن مسألة الصين تشكل دائمًا أهمية مركزية في الانتخابات التايوانية، حيث يتبنى المرشحون مواقف مؤيدة للقومية. ومع أن القضايا الداخلية سوف تظل موضع اهتمام كثير من الناخبين، فإن الصين سوف تقرأ النتائج بوصفها مؤشرًا على ما إذا كانت إعادة التوحيد السلمي سوف تصبح في الإمكان أم لا؟
وفي الوقت الحاضر، يتقدم نائب رئيس الحزب الديمقراطي التقدمي الحالي، والناقد الصريح لبكين، لاي تشينج تي. ومع ذلك، إذا تمكنت شخصيات معارضة من تشكيل ائتلاف، فقد تتمكن من هزيمته، ومن شأن انتصار الحزب الديمقراطي التقدمي أن يزيد التوترات مع الصين، مع ما يترتب على ذلك من عواقب على الشركات، مثل قطاع التكنولوجيا، الذي يعتمد على التجارة والاستثمار عبر المضيق، ومن الممكن أن يكون للارتفاع الحاد في التوترات آثار أوسع نطاقًا، تمتد إلى العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومن الممكن أن يؤدي انتصار المعارضة إلى تخفيف التوتر بين تايوان والصين على المدى القصير، بما في ذلك المبادرات المحتملة لتعزيز التكامل الاقتصادي عبر المضيق، ولكنه لن يحل معضلة مستقبل تايوان الطويلة الأمد.
سيتم الانتقال السياسي في الاتحاد الأوروبي عام 2024، في شهري يونيو (حزيران) ويوليو (تموز)، على مرحلتين؛ سينتخب مواطنو الاتحاد الأوروبي أعضاء جددًا في البرلمان الأوروبي في المدة من 6 إلى 9 يونيو (حزيران)، ثم ستُجري الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التعيينات الرئيسة، ومنها الرئيس الجديد للمفوضية الأوروبية، والمفوضون، ومن المتوقع أن يظل حزب الشعب الأوروبي، الذي ينتمي إلى يمين الوسط، هو أكبر مجموعة سياسية، في حين يمكن لليمين الوطني المحافظ أن يحقق مكاسب كبيرة، ومن الممكن أن يتقدم المتطرفون في أقصى اليسار، وخاصة اليمين المتطرف، على حساب الوسط.
وفي ولاية المفوضية الجديدة التي تمتد خمس سنوات، من المرجح تنفيذ بعض التصحيحات في مسار الأجندة السياسية الشاملة، وفي حين سيظل التنظيم البيئي والرقمي من الأولويات، ستكون هناك ضغوط لإبطاء وتيرة الإصلاح، بما في ذلك الدفع إلى التوفيق بين الصفقة الخضراء للاتحاد الأوروبي والقدرة التنافسية الاقتصادية، وستتعرض ميزانية الاتحاد الأوروبي لضغوط؛ مما سيؤثر في سياسات الإنفاق على الزراعة، والصناديق الهيكلية، والدفاع، والتوسيع، ليشمل أوكرانيا، وسوف يظل الأمن الاقتصادي، والاستقلال الإستراتيجي من الأهداف السياسية الرئيسة في الرد على المنافسة مع الولايات المتحدة والصين، خاصة في مناطق النفوذ غير التقليدية لدول الاتحاد الأوروبي في القارة الآسيوية.
في انتخابات المملكة المتحدة، ستركز الحملات الانتخابية على القضايا المحلية، ولا سيما الاقتصاد، والخدمات العامة، والهجرة. وتشير استطلاعات الرأي الحالية إلى وجود احتمال كبير بأن يشكل حزب العمال الحكومة المقبلة،. وأيًّا مَن كان الفائز، فسوف يواجه تحديات كبيرة، مثل ضعف الإنتاجية والنمو الاقتصادي، وضغوط المالية العامة، والخدمات العامة التي تحتاج إلى الإصلاح والاستثمار، وسوف تستمر ركائز النهج المعارض الذي يتبناه حزب العمال من خلال مبادئ الانضباط المالي، والشراكة مع القطاع الخاص لدفع النمو الاقتصادي. وبينما نتوقع استمرارية السياسة في كثير من القضايا، فإن هناك بعض القضايا، مثل التوظيف، وحقوق النقابات العمالية، يمكن لحزب العمال إجراء تغييرات كبيرة فيها.
وفي ضوء هذا، لن يتغير نهج المملكة المتحدة في التعامل مع روسيا والصين، بل سيسعى حزب العمال إلى إقامة علاقة أفضل مع الاتحاد الأوروبي، لكنه قد يجد صعوبة في الحصول على الدعم إذا لم يكن مستعدًا للنظر في تحول كبير في الاتحاد الجمركي، أو السوق الموحدة، وستكون الحجة لصالح التقارب مع الاتحاد الأوروبي أقوى في حالة فوز ترمب بالرئاسة الثانية.